للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكثيرًا ما نسمع مِن المُعترضين المُعاصرين مَن يحتجُّ على أنَّ الحديثَ يُعارض ظاهرَ القرآن معارضةً لا مندوحة معها مِن ردِّه، وعند التَّفتيشِ في معاني الآية المُعارَض بها، نجِدها تخلو مِن مُوجبٍ لردِّ الحديث.

يحكي لنا ابن القيِّم (ت ٧٥١ هـ) حجمَ القصور الَّذي وقعت فيه هذه الطَّائفة في نظرها للقرآنِ، فقال: « .. رَدُّوا الحديثَ إذا خالَف ظاهرَ القرآن بزعمِهم، وجَعَلوا هذا مِعيارًا لكلِّ حديثٍ خالَفَ آراءَهم، فأخَذوا عمومًا بعيدًا مِن الحديثِ لم يُقصَد به، فجعلوه مُخالفًا للحديثِ، وردُّوه به» (١).

أمَّا عندنا أهل السُّنة، فإنَّ الحديث إذا صَحَّ وتَلَقَّته الأمَّة بالقَبول، كجمهورِ أحاديثِ «الصَّحيحين»، كان مِن أشدِّ الأمورِ إحالةً أن يُعارِض القرآنَ، بل هو شاهِدٌ له ومُبَيِّن؛ على ما قَرَّره ابن عبد البرِّ (ت ٤٦٣ هـ) ونَقَل عليه اتِّفاقَ العلماءِ، فقال: «ليس يَسوغُ عند جماعةِ أهلِ العلمِ، الاعتراضُ على السُّنَنِ بظاهرِ القرآنِ، إذا كان لها مخرجٌ ووَجهٌ صحيحٌ، لأنَّ السُّنةَ مُبيِّنة للقرآنِ، قاضيةٌ عليه، غير مُدافعة له» (٢).

هذا الخطلُ في دركِ آياتِ القرآن، كان واقعًا قَديمًا منذ عهدِ الصَّحابِة رضي الله عنهم، يَتأوُّلها كثيرٌ مِن النَّاسِ على غيرِ ما أُرِيدَ بها، فيأتي أهلُ العِلم بالقرآن والسُّنة، ليُبيِّنوا مُرادَ الله منها، مُستَرشِدين في ذلك بسُنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وسِيرَتِه؛ كان أوَّلهم أبو بكر رضي الله عنه في خُطبةٍ له يُرشد النَّاس بقوله: «يا أيَّها النَّاس، إنَّكم تَقرَءون هذه الآيةَ، وتَضَعونها على غيرِ مَواِضعها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥]، وإنَّا سمِعنا النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ النَّاس إذا رَأوا الظِّالم، فلم يأخذوا على يَديه، أوشَكَ أن يَعمَّهُم الله بعقابٍ» (٣).


(١) «مختصر الصواعق المرسلة» (ص/٦٠٨).
(٢) «التمهيد» لابن عبد البر (١٧/ ٢٧٦).
(٣) أخرجه أبو داود في (ك: الملاحم، باب: الأمر والنهي، رقم: ٤٣٣٨)، والترمذي في (ك: الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، رقم: ٢١٦٨)، وابن ماجه في (ك: الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم: ٤٠٠٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>