للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهؤلاءِ الَّذين يَتذَرَّعون مِن المُعاصِرينَ بقواعدِ المصطلح ليَتَسلَّطوا بها على أخبارِ «الصَّحيحين» بالإعلالِ، لشيءٍ ظهر لهم في أسانيدها، هم مخالفون بادي الرَّأي لأولئك العلماء الَّذين أخذوا عنهم تلك القواعد! فلكم أعلموهم أنَّ أحاديثَ الكِتابينِ قد جاوَزَت القنطرة، وفُرِغَ مِن دراستِها، وتُلقِّيت بالتَّصديقِ لجملةِ ما فيها.

يقول العلائيُّ (ت ٧٦١ هـ): «إذا جَزَم المحدِّث بالخَبرِ وصَحَّحه، واطَّلع غيرُه فيه على عِلَّةٍ قادحةٍ فيه، قُدِّمت على تَصحيحِ ذاك، ما عَدا تصحيح الشَّيخين، لاتِّفاقِ الأمَّةِ على تَلقِّي ذلك منهما بالقبول» (١).

فكان حقًّا مِن الجَهل بالحقيقةِ والشَّرع في الحكمِ، أن يَخضع الدَّارسون للأحاديث لتلك القواعدِ المَرسومةِ المَحدودةِ الَّتي جاءت في كُتبِ مَن تأخَّر زمانه عن زمانِهم، وانحَطَّ مَكانُه عن مكانهم، فيُؤخَذ «تهذيب الكمال» للمِزِّي -مثلًا- أو مُختصراتِه للحافظِ ابنِ حَجر، أو «ميزان الاعتدال» للذَّهبي -على فَضلِ هذه الكُتب، وفَضلِ مُؤلِّفيها على المُشتغلين بهذا العلمِ- فيَحكُم على «الجامعِ الصَّحيح» للبخاريِّ، أو «الجامع الصَّحيح» لمسلم، أو «الموطَّأ» للإمامِ مالكٍ.

فيُعادَ الأمرُ جذعًا! ويُستَأنف النَّظرُ في هذه الكُتبِ الَّتي تَلقَّتها الأمَّة بالقَبول، وبَلغ أصحابُها إلى أقصى دَرجاتِ التَّحقيقِ والدِّقةِ والتَّحرِّي، وتُشرحَ تشريحَ الأجسام، وتُسَلَّطَ عليها المَقاييسُ المَحدودة، الَّتي تَقبل النِّقاشَ، ويَتَّسع فيها مَجال الكلام.

فهذا النَّوع مِن القسوةِ العِلميَّة، والجَفافِ الفكريِّ، والعَملِ التَّقليديِّ -على حدِّ تعبير النَّدْوي- «سيُحدِثُ فوضَى تَزلزلُ بها أركانُ الدِّين، وتَتَضعضَعُ بها العقيدةُ واليَقين، ويَتَورَّط المسلمون في اضطرابٍ قد أغناهم الله عنه، وكفاهم شَرَّه» (٢).


(١) «جامع التحصيل» للعلائي (ص/٧٤).
(٢) «نظرات في صحيح البخاري» لأبي الحسن النَّدوي (ص/١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>