للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن كان قصدُه ما اتَّفقَ الحُفَّاظُ على تصحيحِه من الأخبار، وتلقَّوها بالقَبول -كحال أصولِ المَرفوعات في «الصَّحيحين» -: فكلامه ردٌّ؛ فإنَّ جريان عملهم على تصحيحِها والاحتجاجِ بها مُستَلزِمٌ لاستقامةِ مُتونِها ضرورةً، فلن يَغيب عن جميعِهم نَكارةُ متنِها إن وُجِدَت؛ وسبق الكلام حول هذه المسألة.

وإن كان يريدُ بإطلاقِه بعضَ الحُفَّاظِ، وأنَّ آخرين يُخالفونهم: فهذا يقع كثيرًا؛ يَتنازع النُّقاد في ترجيحِ صِحَّة حديثٍ من عدمه، فما يُصحِّحه جماعةُ ويقبلون متنه، قد يراه آخرون مَعلولًا ويُبطلون مَدلولَه! فلا حَرَج مِن اختيارِ أحَدِ القولينِ بدليلِه.

والظَّاهر من كلامِ الغُماريِّ نزوعه إلى المقصد الأوَّل لا الثَّاني! فإنَّ مِن كبائرِ الغُماريِّ وأصل بلِيَّتِه: استحقارُه لإجماعاتِ المُحدِّثين! فلا يكاد يُبالي بأقوالِ سَاداتِهم إذا خالَفَت رأيَه.

تَرى شاهدَ هذا صارخًا من قبيح قوله: «في المُحدِّثين عادةٌ قبيحةٌ! هي تَقليد السِّابقِ منهم، والاعتماد على ما يقول مِن غير تأمُّلٍ ولا رويَّةٍ، ومع صرفِ النَّظر عن التَّحقيق والاستدلال والبحث فيما يُؤيِّد قولَ ذلك السَّابق أو يُبطله ويَردُّه، لأنَّهم ليسوا أهل نظرٍ واستدلال، وإنَّما أهل رواية وإسناد.

فإذا قال واحدٌ منهم، مثل أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، في حديثٍ أو رجلٍ قولًا، فكلُّ مَن جاء بعدهم سيعتَمِد ذلك القول، ويردُّ به الأحاديث المتعدِّدة ويضعِّفها، لا لدليل ولا برهان ..

فلا يهولنك اجتماعُهم على أمرٍ واتِّفاقُهم على شيءٍ! ولا تعتمد عليه، حتَّى تعلم صحَّتَه أو بُطلانه مِن جهة الدَّليل، فإنَّ أهل التَّحقيق والنَّظر لو سَلَكوا طريقتَهم هذه، لأبطلوا ثُلث الشَّريعة! وردُّوا أكثر الأحاديث الصَّحيحة، لولا أنَّ الله أيَّدهم بنورِه، وأمدَّهم بتوفيقِه، فضربوا بأقوالهم عرضَ الحائط، وداسوا اتِّفاقاتهم بالأقدام، وتطلَّعوا بنظرهم الصَّائِب إلى الحقائق ..

<<  <  ج: ص:  >  >>