للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن ما يَشين عبارةَ الغُماريِّ إطلاقُه للفظِ (الوَضع) على حديث في «الصَّحيحين»! بل ودعوته غيرَه إلى عَدمِ التَّهيُّبِ مِن الحكمِ عليها بذلك إن بَدا له! مُتذرِّعًا بانتفاءِ الإجماعِ عليها؛ ولا ريبَ أنَّه تَهوُّرٌ يفتحِ ذرائعَ لإنكارِ كلِّ مُتَطفِّل جَهولٍ ما لا يَرُوقه مِن الكِتابين؛ فلم يُبقِ الرَّجل بذا للصَّحيحين حُرمةٌ!

فمَن يدلُّني على ناقدٍ مُعتبَرٍ رمَى راويًا في «الصَّحيحين» بالكَذبِ والوَضعِ قبل الغُماريِّ لمُجرَّدِ نكارةٍ رآها في مَتنٍ رواه؟! وأيُّ ناقدٍ مُعتَبرٍ حَكَم على حديث في «الصَّحيحين» بأنَّه موضوعٌ؟! (١) اللَّهم إلَّا ابنَ حزم (ت ٤٥٦ هـ)! وما أشبَهَ الغُماريَّ به في حِدَّتِه! فقد تابَعَه في تكذيبِ قصَّةِ عَرضِ أبي سفيان لابنتِه حبيبة على النَّبي صلى الله عليه وسلم وهي في «صحيح مسلم» (٢)، ووافقه في اتِّهام عكرمةَ بنِ عمَّار رَاوِيه بوَضعِه (٣)!

وفي الشَّهادة على هذا التَّأثُّر الغُماريِّ بابن حزم، يقول بوخبزة الحَسنيُّ: «شيخنا أحمد ابن الصِّدِّيق الغُماري الطَّنجي .. كان لهِجًا بابن حزمٍ، داعِيًا إلى كُتُبِه، حتَّى إنَّه أوْلَم لمَّا خَتم المرَّة الأولى مِن «المُحَلَّى» عن طبعتِه الأولى! وخَرَج منها -وهو شابٌ يَتوقَّد ذكاءً وطُموحًا- نِقمَةً على الفقهاء، ولعنةً على المُتَعصِّبة!


(١) وأمَّا ما نُسب إلى «صحيح البخاريِّ» من حديث: «كيف بك يا ابنَ عمر إذا بقيتَ في قومٍ يُخبِّئون رزقَ سَنتهم، ويضعفُ اليقين»، وهو قطعةٌ من حديث موضوع، تفرَّد بروايته الجرَّاح بن منهال، وهو متروك مُتَّهم: فهذا الحديث لا تصحُّ نسبتُه إلى «صحيح البخاريِّ» في أيِّ روايةٍ من رواياتِ «الصَّحيح»، وما اشتهر في بعض كُتب المُصطلح وبعض كُتب المَوضوعات من أنَّ ابن الجوزيَّ ذكر هذا الحديث في كتابه «الموضوعات» ونَسَبه إلى البخاريِّ: هو محضُ وَهمٍ على ابن الجوزيِّ، وابنُ الجوزيِّ إنَّما عنَى حديثًا آخر؛ وقد وَقَع في هذا الوَهم العراقي وبعده السُّيوطي، مع أنَّ البخاريَّ بريءٌ من هذا الحديث، وانظر تحرير هذه المسألة في جزءٍ بعنوان «بطلان نسبة الحديث الموضوع: (كيف بك يا ابن عمر إذا بقيت .. ) إلى صحيح البخاريِّ» لأستاذنا عبد الباري الأنصاري.
(٢) أخرجه مسلم (ك: الفضائل، باب: من فضائل أبي سفيان بن حرب، رقم: ٢٥٠١).
(٣) «جؤنة العطَّار» (١/ ١٦)، وتبعه على هذا الحكم بالوضعِ أخوه عبد الله بن الصِّديق في تعليقه على «أخلاق النبي» لأبي الشيخ (ص/٥٤) فقال: «هذا الحديث موضوع، لمخالفته للواقع».

<<  <  ج: ص:  >  >>