للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا دعواهم في المعارضة الثَّانية: أنَّ المَعهودَ مِن حال النَّبي صلى الله عليه وسلم تلقينُ الإيمان واختبارَ إسلام الإنسان بكلمة التَّوحيد، وليس بالسُّؤال عن الأيْنيَّة .. إلخ، فجواب ذلك:

أنَّ هذا التَّقعيدَ العامَّ لمثل هذا الحكم، إن كان مستندَه استقراءُ الأحاديث: فإنَّ حديث الجاريةِ واحدٌ مِن تلك الأحاديث! فعدم اعتبارِه في عمليَّة التَّقعيدِ للأحكامِ العامَّةِ انتقائيَّةٌ سِلبيَّة، وخَللٌ في منهجيَّة الاستقراءِ.

وما ردَّ به المُعترض مَبدأ السُّؤالَ النَّبويِّ للجاريةِ بكونِه على غير المَعهود منه صلى الله عليه وسلم: إنَّما كان ذلك مِنه صلى الله عليه وسلم تَنَزُّلًا إلى قدر فهم جاريةٍ نَاشئةٍ مع قومٍ مَعبوداتُهم في بيوتِهم، بما تَبصَّره مِن حالِها، وتبيَّن له مِن مِقدارِ عقلِها، حيث أرادَ صلى الله عليه وسلم أن يَتعرَّف منها بذاك الأسلوب ما يَدلُّ على أنَّها ليست مِمَّن يعبدُ الأصنام الَّتي في الأرض (١).

فإن كانت هي مِن المشركين: تَبيَّن بأن تشير إلى صنمِ بلدٍ أو قوم (٢)؛ فلمَّا أجابته بأنَّ مَعبودَها واحدٌ في السَّماء، عَلِم مِن ذلك أنَّها مُوَحِّدة، إذْ علامةُ الموحِّدين قصرُ العبوديَّة على الله في عَليائه، دون ما يُرى مِن الآلهةِ المعبودةِ في الأرضِ.

يقول أبو سليمان الخطابيُّ (ت ٣٨٨ هـ): «إنَّ هذا السُّؤال هو عن أمارةِ الإيمان، وسِمَةِ أهلِه، وليس بسؤالٍ عن أصلِ الإيمانِ وصفةِ حقيقتِه.

ولو أنَّ كافرًا يريد الانتقالَ مِن الكفرِ إلى دين الإسلام، فوصفَ مِن الإيمان هذا القدرَ الَّذي تكلَّمت به الجارية: لم يصِر به مسلمًا حتَّى يشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبرَّأ من دينه الَّذي كان يعتقده.

وإنمَّا هذا كرجلٍ وامرأة يوجدان في بيتٍ، فيُقال للرَّجل: مَن هذه منك؟ فيقول: زوجتي، وتصدِّقه المرأة، فإنَّا نصدِّقهما في قولِهما، ولا نكشفُ عن أمرهِما، ولا نطالبهما بشرائطِ عقدِ الزَّوجيَّة، حتَّى إذا جاءانا وهما أجنبيَّان،


(١) انظر «المفهم» للقرطبي (٥/ ٧٣، ٧٥).
(٢) «المفاتيح في شرح المصابيح» للمُظهري (٤/ ١٠٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>