للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرجلهم؛ فِطرةً أفحمَ بها أبو جعفر الهمدانيُّ (ت ٣٥١ هـ) (١) أبا المعالي الجوينيَّ (ت ٤٧٨ هـ)، وذلك فيما حكاه عنه قال:

«سمعتُ أبا المعالي الجوينيَّ وقد سُئِل عن قولِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]، فقال: كان الله ولا عرش .. ، وجَعَل يتخبَّط في الكلام.

فقلتُ: قد علِمنا ما أشرتَ إليه، فهل عندك للضَّرورات مِن حِيلة؟

فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟

فقلت: ما قال عارفٌ قطُّ: يا رَبَّاه، إلَّا قبل أن يتَحرَّك لسانُه، قامَ مِن باطنه قصدٌ لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، يقصد الفوق! فهل لهذا القصد الضَّروري عندك مِن حيلة؟ ..

وبكيتُ وبَكى الخلقُ، فضَربَ الأستاذ بكمِّه على السَّرير، وصاح: يا للحيرة! وخرق ما كان عليه، .. ونَزلَ ولم يُجبني، .. فسمعتُ بعد ذلك أصحابَه يقولون: سمعناه يقول: حيَّرني الهَمداني!» (٢).

فهذه الفطرة الَّتي ما بُعث الرُّسل إلَّا بتكميلها وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها كما يفعل مَن خالفَ سُنَّتهم، مِن الحلوليَّة والجهميَّة ونحوهم، فيستنكرون أن يُشارَ إلى الله بأين، ويَورِدون على النَّاس شُبهاتٍ، بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهم كثير من النَّاس مقصودَهم بها؛ ولا تُحسن مع ذلك أن تُجيبَهم.

يقول ابن كُلَّاب: «لو لم يشهد لصحَّةِ مذهبِ الجماعةِ في هذا الفنِّ خاصَّة إلَّا ما ذكرتُ من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غُرس في بَنية الفطرة، وتَعَارفِ الآدميِّين مِن ذلك، ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ بل لا تسأل أَحدًا مِن النَّاس عنه، عَربيًّا ولا عَجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربُّك؟


(١) محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمذاني الحافظ، قال السمعاني: «ما أعرف أن في شيوخ عصره سمع أحد أكثر مما سمع هو»، وقال الذهبي: «الحافظ الرَّحال الزاهد، بقية السلف والأثبات»، انظر «سير أعلام النبلاء» (٢٠/ ١٠١).
(٢) أخرجها الذهبي في «العرش» (١/ ١٥٣)، و «العلو» (ص/٢٥٩)، بإسناد رواته ثقات حفَّاظ.

<<  <  ج: ص:  >  >>