للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا إن سَلَّمنا أنَّ الأمرَ في الآية مُوَجَّه في أصله إلى إبراهيم عليه السلام وأتباعِه، أو أنَّها بصيغة الإخبار: فيكون حديثُ عمر رضي الله عنه هنا دَالًّا على فضلِ اقتداءِ المسلمين بمِلَّةِ إبراهيمَ في هذه الشَّعيرة وغيرها، بل هو الموافق للأصلِ القرآنيِّ، في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: ٤].

وبهذا يُعلَم وِفاقُ حديث عمر للآية على كِلا التَّفسيرين والقراءتين.

وأمَّا دعوى المعترضِ التَّناقضَ بين الرِّواياتِ في سببِ نزولِ آية الحجاب، فيُقال في جوابِه: أنْ ليسَ ثمَّةَ تعارضٌ في الحقيقة بين تلك الأخبارِ، وأبْيَنُ طريقٍ للجمعِ بينها: أن يُقالَ بتعدُّدِ أسباب نزولِ الآيةِ ولا بأسَ، فيكون خبرُ قصَّةِ زينب رضي الله عنها هي آخر هذه الرِّواياتِ حدوثًا، للنَّصِ على قصَّتها في الآية الكريمة، وكذا حديث أنس رضي الله عنه.

ولا مانعَ مع ذلك أن تكون الآية نزلت بعدَ المجموعِ، وكان ذلك سنةَ خمسٍ مِن الهجرة، وليس ببِدعٍ أن يكونَ للآيةِ الواحدةِ عدَّةُ أسبابٍ مُستويةِ الدَّرجة، أو بعضُها أقرب مِن بعضٍ (١)، فيَنسِبُ الرَّاوي النُّزولَ إلى سببٍ منها دون الآخر، باعتبارِ القُربِ منه، ولا يكون القصدُ أنَّها نَزلت فورَ وقوعِ ذلك السَّبَب.

وفي تقريرِ سَواغِ هذا الجمعِ، يقول ابن حجر: «يُمكن الجمع بأنَّ ذلك وَقَع قبل قصَّةِ زينب، فلِقُربِه منها أَطلَقت -يعني عائشة- نزولَ الحجابِ بهذا السَّبب -يعني قصَّة سَودة-، ولا مانعَ مِن تعدُّدِ الأسبابِ» (٢).

فالحاصل: أنَّ عمرَ رضي الله عنه كان مُلِحًّا في حجبِ أمَّهاتِ المؤمنين، و «النَّبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظِر الوحيَ في الأمورِ الشَّرعيَّة، ولذا لم يأمرهُنَّ بالحجابِ مع وضوحِ الحاجةِ إليه» (٣)، فلم يزَل ذلك عنده إلى أن نَزَل الحجاب (٤).


(١) «نظم الدرر» للبقاعي (١٥/ ٣٩٩).
(٢) «فتح الباري» لابن حجر (٨/ ٥٣١).
(٣) «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٢٥٠) بتصرف يسير.
(٤) «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن (٢٣/ ١٣٧)، و «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٢٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>