للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُرتَّب مِن سورةٍ مُعيَّنة كما قد سبق تقريره، فلم يكُن هذا التَّنجيم في التَّنزيلِ ليُخِلَّ بالوحدةِ الموضوعيَّةِ لكلِّ سورةٍ من القرآن على حِدَّة (١).

وفي هذا رَدمٌ لمِا أرادَ (ابنُ قرناسٍ) أن يُفهِمَه قُرَّاءَه، من نفيِه أن يكون لآية الحجاب سَبب نزولٍ مُستقِّل، كونُها «جاءت ضمنَ موضوعٍ كاملٍ يحثُّ نساءَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتمسَّكنَ بالحشمة .. » إلخ تخرُّصاتِه (٢)؛ فإنَّ التَّرابطَ المَوضوعيُّ بين الآيات في المقطعِ الواحدِ مِن القرآن، لا يَنفي نزولَ بعضِها قبل بعض، ولا أنَّ لبعضِها سببًا للنُّزولِ مختلفًا عن الآخر.

فكم مِن سورةٍ نَزَلت جميعًا أو أشتاتًا في الفترات بين النُّجوم مِن سورةٍ أخرى، وكم مِن آيةٍ في السُّورةِ الواحدةِ تَقدَّمت فيها نزولًا وتأخَّرت تَرتيبًا، وكم مِن آيةٍ على عكسِ ذلك ..

وهذا -وربِّي- مِن أجلِّ مَظاهرِ إعجازِ القرآنِ في تنزيله، وعلوِّ نظمِه أن يبلغَه بَشر، فـ «هذا القرآن الَّذي نَزل مُنَجَّمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرين عامًا، تنزِلُ الآيةُ أو الآياتُ على فتراتٍ مِن الزَّمن، يقرؤه الإنسانُ ويتلو سوَرَه، فيجِده محكمَ النَّسج، دقيقَ السَّبك، مترابطَ المعاني، رصينَ الأسلوب، متناسقَ الآيات والسُّور، كأنَّه عقد فريدٌ نُظمت حبَّاتُه بما لم يُعهَد له مَثيل في كلامِ البَشر!

ولو كان هذا القرآن مِن كلام البَشر، قيل في مناسباتٍ متعدِّدة، ووقائع متتاليةٍ، وأحداثٍ متعاقبةٍ: لوَقَع فيه التفكُّك والانفصام، واستعصى أن يكونَ بينه التَّوافق والانسجام» (٣).


(١) انظر «مناهل العرفان» للزرقاني (١/ ٤٤ - ٤٥).
(٢) «الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/٤٤٣ - ٤٤٥).
(٣) «مباحث في علوم القرآن» لمناع القطان (ص/١١٦ - ١١٧)، ولمحمد عبد الله درَّاز في كلام نفيس رائق في كتابه العظيم «النبأ العظيم» (ص/١٨٧ - ١٨٩) عن دلالة التناسق بين التنزيل والترتيب على الإعجاز القرآني، فليراجع هناك.

<<  <  ج: ص:  >  >>