للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذهب آخرون: إلى أنَّ المقصودَ بالآية حقيقةً تخييرُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بين الاستغفارِ وعدمِه، اعتمادًا على ظاهرِ الحديث، منهم: أبو بكر ابنُ العربيِّ (١)، وابن عطيَّة (٢)، وابن جُزَي (٣)، والآلوسي (٤).

وهؤلاء أجابوا عن دلالةِ التَّيئيسِ في الآية: بأنَّه مُستفادٌ مِن طريقِ الاستنباط، والحديث أقوى منه من حيث أنَّه نصٌّ صَريح فيُقدَّم عليه؛ فما فوقَ السَّبعين لم تُبيِّن الآية حكمَه، وبيَّن الحديثُ حكمًا مخالفًا (٥).

والَّذي يظهر لي بعد تَأملٍ في الآية الكريمة -والعلم عند الله تعالى-: عدم التَّنافي بين كِلا هذين القولين، فأقول:

إنَّ الآية تحتمِل معنَى التَّسويةِ والتَّيئيسِ مع معنى التَّخيِير أيضًا (٦)، فإنَّها خِلوٌ مِن نهَيٍ صَريحٍ عن الاستغفار للمنافقين، غايتها إعلامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الله تعالى لا يغفرُ لهم، ولو أكثرَ مِن الدُّعاء لبعضِهم، فالمعنى أنَّ الاستغفارَ مِن عدمه سواءٌ مِن حيث المَآل في آخِرَتِهم، ليَكونَ التَّيئيس مُنصَبًّا في هذه الجهةِ فقط.

أمَّا حكم ذلك مِن حيث المآل في الدُّنيا من جهةِ تحقُّق المصالِح ودرءِ المَفاسِد: فلم تتطَّرق الآية له، فيبقى تحقيقُ هذه الحيثيَّة على أصلِه راجعًا إلى سياسةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومَعلومٌ مع هذا كونُه صلى الله عليه وسلم يُجري على المنافقينَ أحكامَ ظاهرِ أحوالِهم بين عامَّةِ المسلمين، «والقرآن ينعتُهم بسيماهم، كيلا يطمئِنَّ لهم المسلمون، وليأخذوا الحذرَ منهم، فبذلك قُضِيَ حَقُّ المصالحِ كلِّها» (٧).


(١) «أحكام القرآن» لابن العربي (٢/ ٥٥٧).
(٢) «المحرر الوجيز» لابن عطية الأندلسي (٣/ ٦٤).
(٣) «التسهيل لعلوم التنزيل» لابن جزي (١/ ٣٤٤).
(٤) «روح المعاني» للألوسي (٧/ ٣٠٩).
(٥) انظر «المحرر الوجيز» لابن عطية (٣/ ٦٤)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (٢/ ٥٥٨)
(٦) ثمَّ وجدت الألوسي قد أشار في تفسيره (٥/ ٣٣٦) إلى قول من سبق إلى هذا الجمع من «بعض المحقِّقين بعد اختياره للتَّسوية في مثل ذلك: إنَّها لا تنافي التَّخيير .. ».
(٧) «التحرير والتنوير» لابن عاشور (١٠/ ٢٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>