هذا الاحتمالَ ما حدا بعبدِ الله وَلدِ ابن سَلولٍ إلى أن يطلبَ مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ عليه، مع علمِه بما كان مِن أبيه مِن جرائمَ في حقِّ الإسلامِ وأهلِه.
لكنْ مخالطةُ أمثالِ هؤلاءِ لأحوالِ الإيمانِ، ولو في ظاهر الحال، قد يجرُّ إلى تعلُّقِ هديِه بقلوبِهم بأقلِّ سَبب، وهذا بخلافِ المُعلِنِ لكفرِه، المجاهرِ بعداوتِه للدِّين، وقد علِمنا أنَّ سياسة النَّبي صلى الله عليه وسلم مع كِلا الفريقين مُتباينةٌ بالكُليَّة، وابنُ سَلولٍ بَقي على دعوى الإسلامِ إلى أن مات، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يُجري على المنافقين أحكامَ ظاهرِ حالهِم في عامَّةِ المسلمين.
يقول ابن عاشور:
« .. مِن أجلِ هذا الجَري على ظاهرِ الحالِ، اختلفَ أسلوبُ التَّأيِيس مِن المغفرةِ، بين ما في هذه الآية -يعني قولَه تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} - وبين ما في آية:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، لأنَّ المشركين كفرُهم ظاهرٌ، فجاء النَّهي عن الاستغفار لهم صريحًا، وكفر المنافقين خَفيٌّ، فجاء التَّأييسُ مِن المغفرةِ لهم مَنوطًا بوصفٍ يعلمونه في أنفسِهم، ويعلمُه الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولأجلِ هذا كان يستغفر لمِن يسأله الاستغفارَ مِن المنافقين، لِئلَّا يكونَ امتناعُه مِن الاستغفارِ له إعلامًا بباطنِ حالِه، الَّذي اقتضت حكمةُ الشَّريعة عدمَ كشفِه»(١).
أما دعوى المُعترضِ: في كونِ موافقةِ القرآنِ لعمر في هذا مُستلزم أن يكون مَن هو أعلم مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمفهومِ الآيات ومقاصد الشَّريعة:
فقد مَرَّ جوابُه في ثنايا جوابِ الاعتراضِ الأوَّل المتعلِّق بالمعنى المقصودِ مِن آية:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، حيث بَيَّنا أنَّ الآيةَ لا تحوي نهيًا صَريحًا عن الاستغفار للمنافقين، بل هي حمَّالةٌ لمعنى التَّسوية والتَّيئيس، ومحتملة لمعنى التَّخييرِ إذا ما بانَ للنَّبي صلى الله عليه وسلم فائدة في إحدى الخِيرَتين.