للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاختيار النَّبي صلى الله عليه وسلم الاستغفارَ لابن سَلولٍ كان صَحيحًا وقتَها في حَقِّه، لاحتمالِ الآية له، ولم يكُن غَلطًا منه في فهم الآيةِ كما توهَّمه المعترض.

كما أنَّ ما نزَعَ إليه عمر مِن معنى منعِ الآية للاستغفارِ بلازمِ نفيِ الفائدةَ منه في المآل الأخرَويِّ: هو أيضًا فهمٌ منه صَحيح، تحتمله الآية بهذا القيدِ أيضًا، «فإنَّه إذا لم يكُن للاستغفارِ فائدةُ المغفرةِ يكون عَبثًا، فيكون مَنهيًّا عنه» (١).

لكنَّ فهمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للآية وتأويلِها باعتبارِ مآلِها المَصلَحيِّ في الدُّنيا هو الأقرب إلى الحقِّ بلا شكٍّ، كلُّ ما في الأمرِ أنَّ عمرَ رضي الله عنه لطبعِه الشَّديد وقُوَّتِه في ما يَراه حَقًّا، أخَذَ بالمعنى الَّذي يَتَضمَّن الشِّدةَ على المنافقين وإهانَتهم، جزاءَ ما لقِي المسلمون مِن أذاهم؛ وأمَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلأنَّه أرحمُ الأمَّةِ بالأمَّة، وأعلم بالمصالحِ في حالِها ومآلِها، ولأنَّه «لم يُنهَ عن الصَّلاةِ عليه صَراحةً: مَشى على محتملِ اللَّفظِ، وليسَ في الآيةِ إلَّا أنَّ استغفارَك غير مُفيد له، فلَمْ يَبحثْ عن النَّفعِ الأُخرويِّ، فإنَّه لمَّا أرادَ أن يُصلِّي عليه، اكتفى بسِعةِ الألفاظِ فقط، ولم يكن فيها إلَّا عدمُ نفعِ صلاتِه» (٢)، وهذا سبق تقريره.

وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يخفَ عليه المناط الَّذي علَّق عمر عليه المنعَ!

فإنَّه لم يُنكِر عليه ما كان يذكِّره به رضي الله عنه مِمَّا جرى على لسانِ ابن سَلولٍ مِن قبائح، ولكن نظرُه صلى الله عليه وسلم كان أبعدَ مِن عمر في اعتبار المصالح، والمعلوم مِن حالِه صلى الله عليه وسلم أنَّه ما خُيِّر بين أمرين إلَّا اختارَ أيسرهما وأنفعهما، ولم يكن مَيَّالًا إلى جانب العقوبة والتَّشديد إلَّا بوحيٍ، أمَّا عمر، فلم يلتفِت إلى احتمالِ إجراءِ الكلامِ على ظاهِره، لمِا غلَب عليه مِن الصَّلابةِ المذكورةِ.

فأين عمر رضي الله عنه مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم؟! وأين فهمُه من فهمِه؟! فإنَّه كان نبيَّهم وأوْلى به وبالمؤمنين مِن أنفسهم.


(١) «الكواكب الدراري» للكرماني (١٧/ ١٣٩).
(٢) «فيض الباري» للكشميري (٣/ ١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>