للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا دعوى المعترض في أنَّ قتالَ الملائكة تنقيصٌ مِن شأنِ أهلِ بَدر، ونَفيٌ لمزيَّتِهم عن باقي المسلمين .. إلخ:

فهذا منه صحيح لو كان الحَسمُ في المَعركة مِن جهة الملائكةَ فقط، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم في دَعةٍ لا يكادون يرفعون سيفًا؛ ولكن الواقع أنَّ قتال هؤلاء كان هو الأصل، وقد أبلوا فيه بَلاءً حَسنًا، وأنَّ الملائكة ما تَنزَّلت إلَّا عَونًا وتَسديدًا وتَبشيرًا، وما خَبر مبارزةِ الثَّلاثةِ مِن المؤمنين أوَّلَ المعركةِ عن أذهانِنا بغائب (١)، فكلُّ هذا «لإرادةِ أن يكون الفعلُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وتكون الملائكة مَددًا على عادةِ مَدد الجيوش، رعايةً لصورةِ الأسبابِ وسُنَّتِها الَّتي أجراها الله تعالى في عباده» (٢).

فنَفي (رشيد رضا) أن تكونَ لأهلِ بَدر بقتالِ الملائكة مَزيَّة على مَن بعدهم قولٌ منه عجيب، فإنَّ أهلَ بدرٍ لِما اجتمعَ فيهم مِن الفَضائلِ خصَّهم الله بقتالِ الملائكةِ، وغزوتُهم كانت فاتحةَ الصِّراعِ المباشرِ بين الإسلامِ والكُفرِ، وفرقانًا بين الحَقِّ والباطِل؛ فلِما احتفَّ بهذه الغزوةِ مِن فرائد الخِصال، وما تَرتَّب عليها مِن أثرٍ على الدَّعوة في الحالِ والمآل، مع قلَّة عددٍ وعَتاد: اقتضَت حكمة الله أن تكون الغَلبة فيها للمسلمين، رحمةً منه وفَضلًا بعد استضعافِهم، ولعدوِّهم عَذابًا وإذلالًا بعد كِبرهم عن الحقِّ وطغيانِهم.

فما جَرى بين الفريقين كان -في حقيقتِه- «إبدالًا للحقائقِ الثَّابتة باقتلاعِها ووضعِ أضدادِها، حيث جُعِل الجُبن شجاعةً، والخوف إقدامًا، والهَلع ثَباتًا في جانب المؤمنين، وجُعِلت العزَّة رُعبًا في قلوبِ المشركين، وقُطِعت أعناقهم


(١) حيث قَتل حمزة وعليٌّ رضي الله عنهم الَّذَين بارزاهما، وطُعن عبيدة بن الحارث رضي الله عنه بعد قتلِه لعدوِّه عتبة بن ربيعة، ثمَّ مات بعدها، في نزالٍ شديد جرى بين هؤلاء الرَّهطِ السِّتة خلَّد الله تعالى ذكره في كتابه، فكان أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه -في البخاري (رقم: ٤٧٤٣) ومسلم (رقم: ٣٠٣٣) - يُقسم بالله أنَّ هذه الآية نزلت فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}.
(٢) مِن كلام السُّبكي، نقله ابن حجر في «فتح الباري» (٧/ ٣١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>