للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمُشاهد مِن جِهة الواقعِ لِمن سَبَر أغوارَ النَّفسِ البشريَّة، وتكشَّفت له آفاتها عند الفِتَن بخاصَّة: أنَّ المُحرِّك الحقيقيَّ لهذا التَّحوُّل الخطير مِن مُجرَّد الاستشكالِ إلى ردِّ الأخبار: ليس الاستشكالَ في حدِّ ذاته، ولكن الحالة المزاجيَّة الَّتي تلبَّست بالمُستشكلِ عند استشكالِه، وما انطوت عليه من نوعِ تريُّبٍ ونُفرةٍ سابقةٍ من أحكامِ بعض النُّصوص الشَّرعيَّة.

فلذلك حُقَّ لخُلُق (الأناةِ) أن يكون سيِّدَ الضَّماناتِ الفِكريَّة (١)، قد تجلَّت أنوارُه في بديع نُصح ابنِ مسعود رضي الله عنه في قوله: «إنَّها ستكون هَناتٌ، وأمور مُشَبَّهات، فعليك بالتُّؤدةٍ، فتكون تابعًا في الخير، خيرٌ مِن أن تكون رأسًا في الشَّر» (٢).

وأهل السُّنة إذ يَدعون إلى ضرورة التروِّي عند استشكال نصوص الشَّرع، فإنَّهم لا ينفون جواز المَحارةِ في الأفهام لما دلَّت عليه بعضِ الأخبار النَّبويَّة، وإنَّما الَّذي يَأْبَوْنه: ترتيب التَّسارع في الإبطالِ لتلك الدَّلائل النَّقليَّة على مجرِّد انقداحِ الاستشكال -كما تقدَّم تقريره آنفًا-.

والعاقل إذا تَكلَّست قريحته عن دركِ حقيقة النَّص، واستصعَبَ عليه التَّنقيب عن جوابِ إشكالِه، لاذَ بمَن فوقه عِلمًا وفَهمًا، فرَدَّ المُشكِل منه إلى أهلِه، حتَّى يتَّضح له المنهج، ويتَّسِع له المَخرج، مُتأوِّلًا في ذلك قولَ ربِّه جل جلاله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣]، وقولَه تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣]، فَرَقًا من أن يدخل في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: ٣٩].

يقول المعلِّمي: «عَلى المؤمن إذا أشكلَ عليه حديثٌ قد صَحَّحه الأئمَّة، ولم تُطاوعه نفسُه على حملِ الخطأ على رأيِه ونظرِه: أن يعلَمَ أنَّه إن لم يكُن


(١) مقال بعنوان: «سيد الضمانات الفكرية» لفهد العجلان، مجلة البيان العدد ٣١٣ رمضان ١٤٣٤ هـ بتصرف.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٧/ ٤٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>