للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والَّذين جَعلوا ذلك مِن صِفات الله تعالى، أثبتوه بالحديثِ الصَّحيحِ المفسِّرِ للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرَّج في «الصَّحيحين»، الَّذي قال فيه: فيكشِف الرَّب عن ساقِه» (١).

فعلى ذلك، أمكننا القولُ بأنَّ الباعثَ لابنِ عبَّاس رضي الله عنه ومن تبعه إلى استعمالِ العُرفِ اللُّغويِّ في تفسيرِ هذه الآية، وتركِ اعتمادِه على الخَبرِ النَّبوي، أحدُ اعتبارين:

الأوَّل: إمَّا أنَّ الحديثَ لم يَبلُغهم، فحمَلوا الآيةَ على المَعهود عندهم مِن لسانِ العَرب (٢).

الثاني: أنْ يكون عارِفًا بالحديثِ، لكن رأى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عنَى أمرًا آخرَ لم يتقصَّد به تفسيرَ الآيةِ، فكأنَّ الآيةَ ليست عند ابن عبَّاسٍ مِن آيات الصِّفات أصلًا.

وأصل اعتباري لهذا الثَّاني، راجعٌ إلى أنَّ التَّشابهَ وإن كان مَوجودًا بين الآية والحديث، إلَّا أنَّه شَبَه جُزئيٌ لا كليٌّ، بدلالةِ الظَّاهرِ مِن حديثِ أبي سعيد نفسِه، إذْ فيه: أنَّ مَن يُكشف لهم السَّاق أهلُ الإيمانِ أو مُدَّعِيه مِن المنافقين؛ أمَّا الكُفَّار الصُّرَحاء فقد تبِعوا مَعْبوداتِهم إلى النَّار؛ في حين أنَّا نرى سياقَ الآيةَ في سورةِ القَلم جاءَ كلُّه في الكفَّار، والسُّورة مَكيَّة تخاطِبهم، والنِّفاقُ لم يَظهر بعدُ!

فبهذا رجَّحْنا أنَّ المُرادَ مِن الحديث غيرُ منطبقٍ على الآيةِ بالتَّمام، فليس هو نَصًّا في تفسيرِها (٣).


(١) «بيان تلبيس الجهمية» (٥/ ٤٧٣).
(٢) وهذا ما ذَهب إليه مساعد الطَّيار في رسالتِه للدُّكتوراه «التَّفسير اللُّغوي للقرآن الكريم» (ص/٨٧).
(٣) وهذا منِّي خلاف ما ذهب إليه (أحمد نوفل) الأردني في كتابِه «يوم يكشف عن ساق» (ص/١٠٢ - ١٠٣) مِن نفيِ التَّفسير عن حديث أبي سعيد الخدري للآية: «بكون الآية مكيَّة، والحديث مدنيٌّ، حيث أنَّ راويه من أهل المدينة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يصلح أن يكون الحديث مفسِّرًا للآية من الأساس»: فهي عَجلة منه أوقعت به في حفرة أغلاط!
فكون الرَّاوي مدنيًّا لا يقتضي أنَّ ما رواه من الحديث لم يقله النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَّا في المدينة.

كما لو وجدنا حديثًا من رواية صحابيٍّ ما، لا يقتضي ذلك انحصار سماع الحديث فيه، فرُبَّ حديث يسمعه كثرة من أصحابه، فلا يرويه منهم إلَّا البعض، ثمَّ لا يبلغنا إلَّا واحدٌ منهم!
ثمَّ الصَّحابي قد يسمع الحديثَ من صحابي آخر سمعه من النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة فيُرسل عنه.
هذا من النَّاحية التَّأصيليَّة في ردِّ استدلالِ نوفل.
أمَّا فيما يتعلَّق بحديث السَّاق بخصوصه: فقد رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد، فقد ثبت عن ابن مسعود أيضًا، في «تفسير عبد الرزاق» (٣/ ٣٣٥) و «المعجم الكبير» للطبراني (٩/ ٣٥٧، برقم: ٩٧٦٣) وغيرهما، ومَعلوم أنَّه من أوائل من أسلَم في مكَّة، فانخلعت بذا الشُّبهة مِن أساسها.

<<  <  ج: ص:  >  >>