للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمَّا كِسرى الثَّاني، المُلَقَّب بـ (بَرْويز) ابنِ هُرمز: فكان حاله كما أخبرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فبعد أن قتله ابنُه (شِيرُويَه)، انقطعَ أمرُه بالكليَّة، ولم يَزل مُلك فارس إلى انمحاقٍ وانقراضٍ بعدَه بِدَعوتِه صلى الله عليه وسلم.

وهو وإن مَلَك بعده جماعةٌ، لكن لم يخلُفه أحَدٌ مثلُه، ولا ثَبَتَ المُلك لأيِّهِم (١)، وكانوا عشرةً على الأقلِّ، كُلَّما خَلَف أحدُهم مَن سَبَقه قَتلوه، ومَن نَجى عاجَله المَرض بالموتِ بعد أشهرٍ قليلةٍ (٢)، آخرُهم يَزْدَجِرد بن شَهريار، وقد هرَب مِن المدائن عند فتح المسلمين مُتخفِّيًا نحوًا مِن عشرين سنة، إلى أن قُتل في عهد عثمان رضي الله عنه سنة (٣١ هـ) (٣).

فكان بهذا «كِسرى بن هُرمز آخرَ الأكاسِرة المُمَلَّكين، ومَن وَلِي بعده وُلاة مُتضَعِّفون» (٤)، و «مَا مَلَكَ مَن لم يكُن لمُلكِه طائلٌ ولا ثبوت» (٥)!

فبانَ بذا أنْ لا كِسرى مِن بعدِه مِن حيث المُلك حقيقةً، إنمَّا هو اسم فارغٌ مِن المعنى.

فإن قال قائل: قَدَّرنا صِحَّةَ هذا المعنى في كِسرى، فكيف بقيصرَ ومملكةُ الرُّوم لم تَزَل بعدَه قرونَ عديدة؟

وجواب ذلك أن يُقال:

إنَّ مُلك قيصرَ قد انجلى عن الشَّامِ بالكليَّة، واستُفتِحت خزائِنُه، ولم يخلُفه مِن ملوك الرُّومِ في تلك البلادِ أَحَد، والنَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أخبرَ العَربَ عن هلاكِه حيث كان في زَمانِه (٦) -كما أسلفنا تقريرَه- إذْ كانت العَرَب لا تجعَلُ (قيصرَ) عَلَمًا إلَّا


(١) انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (١/ ٤٤٩)، و «التوضيح» لابن الملقن (٢٠/ ٢٠١).
(٢) انظر «إيران في عهد السَّاسانيِّين» للكاتب الدَّانماركي: أَرْثِر كريسْتِنْسِن (ص/٤٨٠).
(٣) انظر «تجارب الأمم وتعاقب الهِمم» لابن مسكويه (١/ ٢٤٦ - ٢٥٣).
(٤) «الجواب الصحيح» لابن تيمية (٦/ ١٠٠) بتصرف يسير.
(٥) «الوفا بتعريف فضائل المصطفى» لابن الجوزي (ص/٢٢٧).
(٦) انظر «فيض الباري» للكشميري (٤/ ٢٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>