للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلو فرَضنا أنَّ البخاريَّ لا يَعِي مِن فهمِ الحديثِ شيئًا، وأنَّه المسكينُ لا يَدْرِي أنَّ السَّاعة لم تَقُم بعد موتِ ذاك الغُلام! فلقد بَيَّن له هشام بن عورة هذا المعنى الواضح في آخر روايتِه للحديث بقوله: «يعني موَتهم»، أي: لن يهرم هذا الغلام حتَّى يموت السَّائل، فتقوم قيامَته، إذْ المَوتُ سَاعةُ كلِّ إنسان، ومن مات فقد قامت قيامتُه.

غير أنَّ هذا الَّذي قاله هشام هو ما فهِمه البخاريُّ ومسلم وباقي الأئمَّة حقًّا، بل هو ما كان واضحًا عند علماء الصَّحابة قبلهم قبل أن يهرم ذلك الغلام! كما تراه في ثاني أحاديثِ هذا الباب، في قولِ ابن عمر رضي الله عنه: « .. إنمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَبْقى مِمَّن هو اليومَ على ظهرِ الأرض أحدٌ»، يريد بذلك أن ينخرِمَ ذلك القرن».

يقول ابن حجر: «قد بَيَّن ابنُ عمر في هذا الحديث مُراد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ مُراده أنَّ عند انقضاءِ مائةِ سنةٍ مِن مقالتِه تلك ينخرم ذلك القَرن، فلا يبقى أحدٌ ممَّن كان موجودًا حال تلك المقالة.

وكذلك وَقع بالاستقراء، فكان آخر مَن ضُبِط أمرُه ممَّن كان موجودًا حينئذٍ: أبو الطُّفيل عامر بن واثلة، وقد أجمعَ أهل الحديث على أنَّه كان آخر الصَّحابة موتًا، وغاية ما قيل فيه أنَّه بَقِي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنةٍ مِن مقالة النَّبي صلى الله عليه وسلم» (١).

ونحن نَعلمُ أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنه توفي سنة (٧٣ هـ)، أي: أنَّه قد فهِم الحديث فهمًا صحيحًا قبل أن يُقطَع بمجيءِ سنة (١١٠ هـ)، وهو الوقت المضروب لظهورِ كذبِ الحديث، حسب زعمِ المعترضين من المعاصرين!

وعلى نحوِ فهمِ ابن عمر رضي الله عنه ينبغي أن تُفهم أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم مجموعًا طُرقها بعضها إلى بعض، لا بأن يُنظر في كلِّ واحدٍ منها مُنعزلًا عن الآخر؛ فما


(١) «فتح الباري» لابن حجر (٢/ ٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>