للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا كانت الأرض على هذا مَخلوقةً للإنس على وجه المِنَّة أصالةً، فكيف يُقال بسبقِ غيرهم إلى الاستمتاع بها؟! ففي هذا مناقضة لتلك المِنَّة والخصوصيَّة، والله أعلم.

نعم؛ لا نُنكِرُ بأنَّ الجِنَّ مخلوقةٌ قبل آدم، فهذا مُحكَم التَّنزيل؛ إنَّما الشَّأنُ في إثباتِ أنَّهم كانوا في الأرض على وجهٍ استحكموا فيها بما فيها، وعمَّروا فيها أزمنةً مُتطاولة، فهذا الَّذي يَعُوزه الدَّليل.

هذا مع صرفِ نظرنا عن طبيعة مُدَدِ تلك الأيَّام السِّتة! وطولِها الهائل، الَّذي لا يُمنَع معه القولُ بسبقِ بعض المَخلوقات على البعض الآخر بمُدَّةٍ هي في عرف البَشر دهورٌ مِن الزَّمن.

وما لنا نَذهبُ بعيدًا في الاستدلال؟ وفي ظاهرِ حديث خلق التُّربة نفسِه ما يدلُّ على أنَّ خلقَ آدم عليه السلام كان بعد خلقِ الأرض يومَ سابعةٍ!

وفي تقرير هذا المعنى من الحديث يقول البِقاعيُّ (ت ٨٨٥ هـ): «ما يُقال مِن أنَّه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خَلقٌ يَعصون، قَاسَ عليهم الملائكة -عليهم السَّلام- حالَ آدم عليه السلام، كلامٌ لا أصل له، والَّذي يدلُّ عليه حديث مسلم هذا -يعني حديث التُّربة- كما ترى أنَّه أوَّل ساكني الأرض» (١).

أقول: هنا قد ترى بعضَ مَن يُصحِّح الحديثَ يَفِرُّ من لازمِ هذا الظَّاهرِ المُشكِلِ على مَذهبِهم في تأخُّرِ آدمَ عليه السلام عن خلقِ الأرض بدُهور، بأنْ يقولَ: إنَّ الجمعةَ المذكورة في الحديث ليست عَقِب يوم الخميس الَّذي قبله في الحديث، بل هي جمعةٌ أخرى مستقلَّةٌ، جاءت بعد تلك الأيَّام بأزمانٍ مَديدة!

هذا التَّأويل المُتَكلَّف تجده في مثل قول ثناء الله المظهريِّ (ت ١٢٢٥ هـ) (٢): «لا دليلَ في الحديثِ على أنَّ المُراد بالجمعة الَّتي خُلِق فيها آدم أوَّلَ جمعةٍ بعد


(١) «نظم الدُّرر» (١/ ٢٦٢).
(٢) محمد ثناء الله الهندي البَاني الحنفي العثماني المظهري، من تلاميذ ولي الله الدهلوي، كان يُسمى (بيهقي العصر) نظرًا إلى تبحُّره في الفقه والحديث، وله تفسير عظيم في أحاديث الأحكام، انظر ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للطالبي (٧/ ٩٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>