للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعبد الله بن سلام رضي الله عنه قد صَحَّ عنه بابتداءِ الخلقِ يوم الأحد، وختامِه يوم الجمعة (١)، وهو وإن كان مِمَّن أخذَ عن أهلِ الكتاب قبلَ إسلامِه، فما كان لمثلِه -وهو صَحابيٌّ كريم- أن يَبقى على ذاك القولِ لو جاء عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم ما يُناقِضه! فضلًا عن أن يُقَرَّ بروايةِ ذلك للتَّابعين وهو مِن البَواطل!

فنفهم أنَّ ما دعاه إلى البقاءِ على هذا القول في بدءِ الخلق: ما فهِمه مِن إقرارِ الشَّرع لذلك! وهذه نُكتة لم أرَ مَن انتبَه إليها، والله أعلم.

وكذا نقول في كعب الأحبار وروايتِه الَّتي خالف بها ما نُسِبَ إلى أبي هريرة رضي الله عنه مِن حديثِ خلقِ التُّرب: لو عَلِم كعبٌ مِن صاحِبه أبي هريرة رضي الله عنه روايةَ ما يُناقض ما يعتقده ويرويه مِن بدءِ الخلقِ يوم الأحد (٢)، ما بَقيَ كعبٌ على اعتقادِه ذاك، ولمَا انشغلَ بروايتِه تلك بعد روايةِ أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومِن لَطيف ما رأيتُه يدلُّ على أنَّ ما يَرويه أهلُ الكتاب في يومِ ابتداءِ الخلقِ صحيحٌ يُصَدِّقه الشَّرع: أنَّ الله تعالى حين أبطلَ قولَهم في السَّبت، إنَّما أنكرَ دعواهم أنَّه استراح فيه مِن الخلقِ، في حينِ لم يُنكِر قولَهم معه أنَّ الخلقَ انقطعَ فيه! فيُعَدُّ منه إقرارًا لهم (٣)، والله أعلم.

يقول قتادة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: ٣٨]: «قالت اليهود: إنَّ الله خلق السَّموات والأرض في ستَّة أيَّام، ففرَغ مِن الخلقِ يوم الجمعة، واستراحَ يوم السبت، فأكذَبَهم الله تعالى، وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}» (٤)، أي: مِن إعياءٍ


(١) أخرجه الطبري في «تاريخ الدول والملوك» (١/ ٣٧)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (٢/ ٢٤٩ - ٢٥٠) مِن طريقين عن عبد الله بن سلام، وهو صحيح.
(٢) ومعروف أنَّهما كانا يَتَذاكران هذه السَّوالِف من الأخبار، ومسألتنا هذه مِن أُمَّهاتِها!
(٣) تمامًا كما أنكر الله على الجاهليِّين نسبةَ ما هم عليه من الفواحش إلى أمر الله، ولم ينكر عليهم نسبتها إلى إرثِ آبائهم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، فأقرَّهم على الأولى بالسُّكوتِ عليها، وأنكرَ عليهم الثَّانية وشنَّع عليهم بسببها.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (٣/ ٢٣٣)، والطَّبري في «تفسيره» (٢١/ ٤٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>