للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُنْتَفٍ؛ فإنَّ هذه الأشراط الَّتي يَقطع علماءُ المسلمين بصحَّةِ الخبرِ بها، غايتُها أن تتَميَّز بها السَّاعة قدرًا مِن التَّمْيِيز، وأمَّا التَّحديد التَّام فهو مِن الغيب المُطلق الَّذي اختَصَّ الله به.

ولعلَّ ما أوقعَ (رشيد رضا) في هذه المُغالطة: ظنُّه أنَّ ترتيبَ حَدثٍ بعد وقوع حَدَثٍ قبله، يمنعُ حدوثَ الأخير منهما في التَّرتيب أن يكون بَغتةً؛ وهذا فَهم خاطئ، يُتبيَّن زغله إذا علمنا:

أنَّ معنى (البَغتة) في اللُّغة: المفاجأة بالشَّيء (١)، أي: نفي عِلمِك بمَجيء وقتِ ذاك الشَّيء بالتَّعيين، فأمَّا عِلمُك بقربِ وقتِه لعلامةٍ ما، لا يعني معرفتَك بوقتِه تحديدًا، فلا تَلازم.

هذا ما قرَّره ابن جرير الطَّبري بفصيح عبارةٍ في مَعرضِ حديثه عن السَّاعة وأشراطِها الكُبرى، فقال:

«إنَّ تلك أوقاتٌ لا يَعلم أحدٌ حدودَها، ولا يعرف أحدٌ مِن تأويلِها إلَّا الخبر بأشراطِها، لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك .. وكان نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئًا من ذلك لم يدلَّ عليه إلَّا بأشراطه، دون تحديده بوقتٍ، كالَّذي رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابه إذا ذكر الدَّجال: «إنْ يخرُج وأنا فيكم، فأنا حجيجُه، وإن يخرج بعدي، فالله خليفتي عليكم»، وما أشبه ذلك مِن الأخبار .. الدَّالةِ على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده عِلمُ أوقاتِ شيءٍ منه بمَقادير السِّنين والأيَّام، وأنَّ الله -جلَّ ثناؤه- إنَّما كان عرَّفه مجيئَه بأشراطه، ووقتَه بأدلَّته» (٢).

والَّذي أعجب منه، ليست غفلة (رشيد رضا) عن هذا الفرق اللُّغويَّ المهمِّ، ولكن عجبي من أنَّه -وهو المُعترض على هذه الأحاديث بدعوى أنَّ خروجَ الدَّجال وأشراط السَّاعة قاضيةٌ على الحكمةِ مِن إخفاء السَّاعة- هو نفسُه قبل مَوضعِ اعتراضِه هذا بصفحاتٍ يَسيرة، يقرِّر «أنَّ للسَّاعة أشراطًا ثَبَتت في الكتابِ


(١) «المفردات» للراغب الأصفهاني (ص/١٣٥).
(٢) «جامع البيان» للطبري (١/ ٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>