للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فِي صدر الْبَيْت وَقرن بِه تبطُّن الكاعب، ثُمّ صدر الْبَيْت الثَّانِي بسبئهِ الْخمر وَجَعَل عَجزه فِي حَثِّه الْخَيل عَلَى الْكر، وتوهم أَن هَذَا متنافرٌ غَيْر متشاكل، ومتخالف غَيْر متماثل، وَأَن الْوَجْه فِي هَذَا لَو تنبّه عَلَيْه هُوَ أَن يَقُولُ:

كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا وَلَم أقلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ

وَلَم أسبأ الزِّق الرَّوِيَّ للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ

قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَلَو ثاب إِلَى هَذَا الْخَادِم عَازِبُ لُبِّه، وفُتح لَهُ الْقُفْل الضَّاغط عَلَيْه، لتيقظ للوقوف عَلَى فَسَاد تَوهُّمِه، ولتجلَّى لَهُ الْخلَل فِيمَا آثره وَقدمه، وَتعلم أَن تَرْتِيب امرىء الْقَيْس فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أصح التَّرْتِيب وَأحسنه، وأوضح التَّأْلِيف وأبينه، وَأَنه متسقٌ مسْتَتِبّ، ومتفقٌ متلئب، وَلَا ستفاد علما جما لما يتبينُهُ من اطِّرادِهِ وتلاومه، وائتلافه وتقاومه، وَأَنه من أحسن الشُّعَرَاء، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن من الشِّعْر حِكْمَة " وَأَنا مُبين هَذَا بَيَانا كَافِيا، وملخِّصه تلخيصًا مُفِيدا شافيًا إِن شَاءَ اللَّه وَبِه التَّوْفِيق.

إِن الْجواد يُركب لأغراضٍ شَتَّى، مِنْهَا الْمُحَاربَة وشّنُّ الْغَارة وإدْراك الْعَدو والهارب، وفوت الثائر الطَّالِب، وَطلب الأوتار وَأخذ الثأر، والتماس الْمَعيشَة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران، والسبق والنِّضال، والتدرب بالفروسية والقتال، والركض والرياضة، والإسراع والمواشكة فِي الْحَاجة، فِي لواحق هَذِهِ الْأُمُور وتوابعها، أَو مَا يقاربها ويضارعها، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة، وَكَانُوا إِذا كَانَ لَهُم ذحلٌ يُحرِّمون الْخمر عَلَى أنفسهم حَتَّى يثأروا فحينئذٍ يَسْتحلُّونها، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:

حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ وَكنت امْرأً ... عَنْ شُرْبِها فِي شُغُل شاغِلِ

فاليوم أسْقَى غَيْر مستحقبٍ ... إِثْمًا من اللَّهِ وَلا وَاغِلِ

وَمِنْهَا القصدُ لضروب اللَّهْو والْمُتعة، والنشاط والرَّتَعة، والالتذاذُ باخْتيَالِ الْجواد وقطعه الجدد، قالركوب الَّذِي قصد امْرُؤ الْقَيْس بقوله: كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا، إِنَّمَا عَنَى بِهِ بَعْضَ مَا فِيهِ التذاذ ومُتعة، وَلَهو ورَتَعَة، وَقَدْ أبان ذَلِكَ بقوله: للذة، فَكَانَ من أليق مَا يَلِيهِ، ويقرن بِهِ مَا جانسه فِي التَّمَتُّع وَاللَّهْو، إِذْ لَمْ يَكُنْ ركُوبه للغارة والغزو فَلذَلِك قَالَ: وَلَم أتبطَّنْ كاعبًا ذاتَ خلخال، وَلَو قَالَ بعد قَوْله: كأنِّي لَمْ أركب جوادًا للذة، حسب مَا اقترحه وقَالَ الْخَادِم وَأَشَارَ بِهِ، لَكَانَ قَد أَتَى بمجمع من القَوْل غَيْر متسق، ومضربٍ من التَّأْلِيف غَيْر مُتَّفق، وَلَم يُقْدم هَذَا الْخَادِم عَلَى هَذَا الرَّأْي الفَائِل، والتوهُّم الْبَاطِل، إِلا بعد حذفه من قَول امرىء الْقَيْس مَا ينْكَشف الْمَعْنى بإثباته، ويزداد وضوحه بإحضاره، وَذَلِكَ قَوْله: للذةٍ، وَلَو لَمْ يذكر اللَّذَّة لَمْ يُؤمن عَلَى مثل هَذَا اراد الشُّبْهَة وَإِن كَانَتْ من المتأمل النَّاظر، والنِّحْرير الماهر، مأمورٌ بِهِ لوُجُوب حسن الظَّن بامرىء الْقَيْس فِي نظمه، ونسبته إِلَى وصل بعض كَلَامه بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ، وَكَيف وَقَد أوضح الْمَعْنى وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، وأفصح

<<  <   >  >>