للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِه وَنَصّ عَلَيْه، وأمّا قَوْله: " وَلَم أسبأ الرزق الروي فَإِنَّهُ قد يسبأ رزق الْخمر للنادم واللذَّة، والارتياح والنشوة، وَقَدْ يُسْبأ للْبيع وَالتِّجَارَة ولإِهدائه إِلَى ذِي الْمُرُوءَة لتحريك الطبائع بشُرْبه عَلَى تذكر الأضغان والغَمْر، وتهيج الْحِقْد وَطلب الْوتر، وَالْجد فِي الْقيام بالثأر، وتجرئة الجبان، وتنشيط الْجنان، والسماحة فِي إِدْرَاك الشّرف بالنفوس، وبذْل كُلّ عِلْقِ مضنةٍ نفيسٍ، وَأَرَادَ امْرُؤ الْقَيْس بِمَا سبأه من الْخمر هَذِهِ الْمعَانِي أَوْ مَا أَرَادَ مِنْهَا، فَكَانَ اللَّائِق بقوله: وَلَم أسبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ أَن يَكُون عجز بَيته هَذَا مَا وَصفه فِي قَوْله: وَلَم أقل لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجفال فاغفل هَذَا الْخَادِم المقصوص، والأَتّي المنقوص، هَذَا الْمَعْنى، وَأخذ من الْبَيْت الأول قَوْله للذة فألحقها بِالْبَيْتِ الثَّانِي، فَلم يتم لَهُ بِمَا غَيره مَا قدره، وَذهب عَنْهُ فهم مَا رتَّبه امْرُؤ الْقَيْس وقرّره، وَمَا ذكرنَا من تقسُّم الْمعَانِي الَّتِي وَصفنَا بهَا سَبَايَا الْخمر أشهر فِي عرف النّاس وَكَلَام الْعَرَب من أَن يحْتَاج إِلَى الاستشهاد عَلَيْه، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ وَعز " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كبيرٌ ومنافعٌ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نفعهما " وَهَذَا معنى بَيْنَ الصِّحَّة غَيْر مشكلٍ عَلَى ذِي بَصِيرَة، قَالَ: حَسَّان بْن ثَابِت:

نُوَلِّيها الملامةَ إنْ أَلِمْنَا ... إِذا مَا كَانَ مغثٌ أَوْ لِحاءُ

ونشربُها فتتركنا ملوكًا ... وأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ

وقَالَ الْأَعْشَى:

لعمرك إِن الرّاحَ إِن كُنْت سَائِلًا ... لمختلف عَشيُها وغَدَاتُها

لنا من صَحَاهَا خُبْثُ نفسٍ وكأبةٌ ... وذكرُ همومٍ مَا تَغِبُّ أذاتُها

وَعند العَشِي طيبُ نفسٍ ولذةٌ ... وَمَال كثير غُدْوَةً نشواتُها

وقَالَ المتنخِّل:

وَلَقَد شربت من المدا ... مة بالكبير وبالصَّغير

فَإِذا انتشيْتُ فإنني ... ربُّ الخَوَرْنقِ والسَّدِير

وَإِذَا صحوتُ فإنني ... ربُّ الشويْهةِ وَالْبَعِير

وَهَذَا كثير جدا، وَقَول امرىء الْقَيْس: لَمْ أقل لخيلي كُرِّي، أَرَادَ لفرسان خيلي، كَمَا قَالَت الْعَرَب: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي بِالْجنَّةِ، أَيّ: يَا فرسَان خيل اللَّه، وقَالَ: اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ، وَقَوله أصدق القَوْل وَأحسنه " واسأل الْقرْيَة " يَعْنِي أَهلهَا، وقَالَ: تَعَالَى ذكره:

" فأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل " أَيّ حُبَّ الْعجل فِي قَوْلِ مُعظم أَهْل التَّأْوِيل، وذُكِر بَعضهم أَنَّهُ سُحِلَ وأُلْقِي فِي اليمِّ فشربوه، وَالْقَوْل الأول أولى بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي مَا شُرب ولُحِسَ من المَاء وَغَيره قَدْ أُشْرِبْتُه فِي قلبِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أُشْرِبَ فُلان حُبّ فُلان فِي قلبه أَوْ عداوته وبغضه، وذكرتُ أبياتًا غَزِلَة لبَعض الْمُحدثين فأوردتها هَا هُنَا لِأَنِّي استحسنتُها

<<  <   >  >>