واحتذى حذوه وأفرط في ذلك وأسرف حتى زال عن النّهج المعروف وسنن المألوف بل إنّ مسلماً غير مبتدع له ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع متفرّقة في أشعار المتقدمين فقصدها وأكثر في شعره منها ولكنه حرص على أن يضعها في مواضعها ولم يسلم مع ذلك من الطعن عليه حتى قيل إنه أول من أفسد الشعر فجاء أبو تمام على أثره واستحسن مذهبه وأحبّ أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني استكراهاً ففسد شعره وذهب طلاوته ونشف ماؤه فقط سقط الآن احتجاجكم باختراع أبي تمام لهذا المذهب وسبقه إليه: وكلّ ما في المسألة أنه استكثر منه وأفرط فكان إفراطه فيه من أعظم ذنوبه وأكبر عيوبه. أما البحتري فإنه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعروفة على كثرة ما جاء في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة فكان انفراده بحسن العبارة وحلاوة اللفظ وصحّة المعنى والبعد عن التكلف والتعمل سبباً في إجماع الناس على استحسان شعره واستجادته وتداوله ونفاق شعر الشاعر دليل على علو مكانته واضطلاعه بما يلائم الأذواق ويلامس القلوب من أساليب الكلام ومناهجه.
(صاحب أبي تمام) إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقّة معانيه وقصور فهمه عنه أما النقاد والعلماء فقد فهموه وعرفوا قدره وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه.
(صاحب البحتري) لا يستطيع أحد أن ينكر منزلة ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى الشيباني ودعبل بن الخزاعي من الشعر ومنزلتهم من العلم بكلام العرب وقد علمتم مذهبهم في أبي تمام وازدراءهم بشعره حتى قال دعبل إن ثلث شعره محال