وعلى هذا فقول القائل:(العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه) لا منافاة بينهما.
وكذلك قوله:(وتعبده له فقط) لا ينافي قوله (ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه) بل كونه تعبده له فقط إنما كان محموداً لأنه مستحق للعبادة، وإنما انبغى للعبد أن يفعلها لأنها نسبة شريفة، وإلا فلو فعل العبد ما لا خير فيه كان مذموماً، لكن يفرق بين من يكون قد عرف الله معرفة أحبه لأجلها، وبين من سمع مدح أهل المعرفة، فاشتاق إلى كونه منهم، لما في ذلك من الشرف، فإن هذا في الحقيقة إنما مراده تعظيم نفسه وجعل المعرفة طريقاً إليها.
وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور، كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال:(فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال: لي: إنك إنما أخلصت للحكمة، لم تخلص لله) .
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب.