يكن ثم كان، بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثاً بعد عدمه، ولا يكون قديماً أزلياً.
وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء، وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه، حتى ابن سينا وأتباعه، ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا، فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديماً أزلياً، ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعو ذلك، ولا تناقضوا.
وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع.
وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة، فهي مبينة على امتناع حوادث لا أول لها، والمتفلسف لا يقول بذلك، فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود.
والتحقيق أنه لا يحتاج إليها، بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة، كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات، وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه، بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق، وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها، بل قد يورثون الناس شكاً فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية.