لَا يُبَالِي بِمِثْلِهِ عَادَةً فَلَا يُعْدِمُ الرِّضَى وَهُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ (إلَّا فِيمَنْ) أَيْ فِي حَقِّ مَنْ (يَسْتَضْرِبُهُ) أَيْ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَحَبْسِ يَوْمٍ (لِكَوْنِهِ ذَا مَنْصِبٍ) فَيَكُونُ مُكْرَهًا بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ فَيَفُوتُ بِهِ الرِّضَى.
وَفِي الْمَبْسُوطِ الْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ مَا يَجِيءُ بِهِ الِاهْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تَكُونُ بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ.
(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ) أَكْلِ (دَمٍ) وَوَقَعَ فِي الْإِصْلَاحِ أَوْ شُرْبِ دَمٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ مِنْ الْمَشْرُوبِ لَا مِنْ الْمَأْكُولِ لَكِنْ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا فِيمَا إذَا كَانَ جَامِدًا أَوْ مَشْرُوبًا فِيمَا إذَا كَانَ سَائِلًا تَدَبَّرْ (أَوْ) أَكْلِ (لَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ) أُكْرِهَ عَلَى (شُرْبِ خَمْرٍ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ لَا يَحِلُّ) لِلْمُكْرَهِ (التَّنَاوُلُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا إذْ لَا يُضْطَرُّ بِمِثْلِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِمْ التَّحَمُّلُ إلَّا أَنْ يَقُولَ لَأَضْرِبَنَّ عَلَى عَيْنَيْك أَوْ ذَكَرِك.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ وَالْقَيْدِ الْمُؤَبَّدِ لَا يُوجِبُ الْإِكْرَاهَ إذَا لَمْ يُمْنَعُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لِعَدَمِ الْإِفْضَاءِ إلَى تَلَفِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَإِنَّمَا يُوجِبَانِ غَمًّا وَالتَّنَاوُلُ لِلْمُحَرَّمِ لِإِزَالَةِ الْغَمِّ لَا يَحِلُّ وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ ذَا تَنَعُّمٍ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ بِالْحَبْسِ الْمَذْكُورِ أَوْ بِالْحَبْسِ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ يَخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفَ غَمًّا أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَيْنِهِ بِظُلْمَةِ الْمَكَانِ يَحِلُّ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَجْعَلْ الْحَبْسَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ وَهُوَ الْمُكْثُ الْمُجَرَّدُ إكْرَاهًا أَمَّا الْحَبْسُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ فَهُوَ إكْرَاهٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لَا حَبْسٌ مُجَرَّدٌ.
(وَإِنْ) أُكْرِهَ عَلَى تَنَاوُلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (بِقَتْلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ حَلَّ) تَنَاوُلُهَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُلْجِئٌ بِهِمَا وَحُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَأَمَّا حَالَةُ الِاضْطِرَارِ فَمُبْقَاةٌ عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩] (وَيَأْثَمُ) الْمُكْرَهُ (بِصَبْرِهِ عَلَى التَّلَفِ إنْ عَلِمَ الْإِبَاحَةَ) ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ مُبَاحٍ وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَهْلَكَةٍ (كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ) أَيْ كَمَا يَكُونُ آثِمًا بِالصَّبْرِ فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْجُوعِ فَأَتْلَفَ نَفْسَهُ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا أَثِمَ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيمَا فِيهِ خَفَاءٌ.
(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَتْلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ رُخِّصَ لَهُ إظْهَارُهُ) أَيْ إظْهَارُ الْكُفْرِ أَوْ غَيْرِهِ (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) أَيْ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ عَقِيدَتُهُ فَإِنَّ «الْمُشْرِكِينَ أَكْرَهُوا عَمَّارًا فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ إنْ عَادَ الْكُفَّارُ بِالْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ فِيمَا أَجْرَيْته عَلَى لِسَانِك وَنَزَلَ فِي حَقِّهِ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]
وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute