[كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ]
ِ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّيْرُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: ٢٠] يَعْنِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ فِي التِّجَارَةِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَالِبًا لِطَلَبِ الرِّبْحِ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ هَذَا الْعَقْدَ مُقَارَضَةً وَقِرَاضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَقْطَعُ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ وَيُسَلِّمُهُ لِلْعَامِلِ، وَأَصْحَابُنَا اخْتَارُوا لَفْظَةَ الْمُضَارَبَةِ لِكَوْنِهَا مُوَافِقَةً لِلنَّصِّ.
وَفِي الشَّرْعِ (هِيَ) أَيْ الْمُضَارَبَةُ (شَرِكَةٌ) فِي (الرِّبْحِ) بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْته مُضَارَبَةً أَوْ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ لَك مِنْ الرِّبْحِ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ كَالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَقُولَ الْمُضَارِبُ: قَبِلْت، فَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ رُكْنٌ، وَالظَّرْفُ لِلشَّرِكَةِ (بِمَالٍ مِنْ جَانِبٍ) - وَهُوَ جَانِبُ رَبِّ الْمَالِ - (وَعَمَلٍ مِنْ جَانِبٍ) آخَرَ وَهُوَ جَانِبُ الْمُضَارِبِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا؛ فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَبَيْنَ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِتَنْتَظِمَ مَصْلَحَةُ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَبُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (وَالْمُضَارِبُ أَمِينٌ) ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ وَالْوَثِيقَةِ.
وَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يُقْرِضَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذَهُ مِنْهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْعَمَلِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِذَا عَمِلَ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَأَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْقَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ أَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ هَلَكَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ، وَهُوَ الْعَامِلُ وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ حِيلَةً أُخْرَى، فَلْيُطَالَعْ.
(فَإِذَا تَصَرَّفَ) الْمُضَارِبُ فِي الْمَالِ (فَوَكِيلٌ) لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَالْوَكِيلِ (فَإِنْ رَبِحَ) مِنْهُ (فَشَرِيكٌ) لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute