للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَقْدِيمِهِ عَلَى النِّكَاحِ كَوْنُ الْحَجِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ وَلَيْسَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ (هُوَ) لُغَةً: الْقَصْدُ إلَى مُعَظَّمٍ لَا مُطْلَقُ الْقَصْدِ كَمَا ظُنَّ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُؤَلًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

أَيْ يَقْصِدُونَ لَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ وَالْفَتْحُ لِغَيْرِهِمْ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ اسْمٌ وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ لَكِنْ قُرِئَ فِي التَّنْزِيلِ بِهِمَا وَهُوَ نَوْعَانِ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ حَجُّ الْإِسْلَامِ وَالْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ كَمَا فِي النُّتَفِ وَشَرْعًا (زِيَارَةُ مَكَان مَخْصُوصٍ) الْمُرَادُ بِالزِّيَارَةِ الطَّوَافُ وَالْوُقُوفُ بِالْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ وَالْجَبَلِ الْمُسَمَّى بِعَرَفَاتٍ وَلَوْ قَالَ قَصْدُ مَكَان لَتَضَمَّنَ الشَّرْعِيُّ اللُّغَوِيَّ مَعَ زِيَادَةٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ الزِّيَارَةُ تَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ وَأَرَادَ بِالْمَكَانِ جِنْسَهُ وَلِذَا قَالَهُ فِي الْإِصْلَاحِ هُوَ زِيَارَةُ بِقَاعٍ مَخْصُوصَةٍ فَيَعُمُّ الرُّكْنَيْنِ وَغَيْرَهُمَا كَمُزْدَلِفَةَ وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ (فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ) وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ (بِفِعْلٍ مَخْصُوصٍ) وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ مُحْرِمًا (فُرِضَ) الْحَجُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: ٩٧] الْآيَةَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّأْكِيدِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: ٩٧] يَعْنِي أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ فِي رِقَابِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ عَلَى لِلْإِلْزَامِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاسَ ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ مَنْ اسْتَطَاعَ وَفِيهِ ضَرْبَانِ مِنْ التَّأْكِيدِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِبْدَالَ تَنْبِيهٌ لِلْمُرَادِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيضَاحَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالتَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ إيرَادٌ لَهُ فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَمَنْ كَفَرَ مَكَانَ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ تَغْلِيظًا عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَمِنْهَا ذِكْرُ الِاسْتِغْنَاءِ وَذَا دَلِيلُ السَّخَطِ عَلَى التَّارِكِ وَالْخِذْلَانِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْعَالَمِينَ تَنَاوَلَهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ؛ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ الْكَامِلِ فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى عِظَمِ السَّخَطِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْحَجُّ وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (فِي الْعُمُرِ مَرَّةً) ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قِيلَ لَهُ أَيُحَجُّ فِي كُلٍّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ مَرَّةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ فِي تَمَامِ هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَكَرَّرُ مَعَ عَدَمِ التَّعَدُّدِ فِي السَّبَبِ كَمَا فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ وَقْتِهِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّأْسُ. تَأَمَّلْ (عَلَى الْفَوْرِ) أَيْ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْفَوْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي التَّزْوِيجِ تَحْصِينَ النَّفْسِ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ يُفَوِّتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>