وَمَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ أَنَّ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ مِقْدَارُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَشْتَمِلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَابِ الْمَسْحِ حِكَايَةُ فِعْلِهِ كَرِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سَفَرٍ وَكُنْت أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ ذَيْلِهِ وَمَسَحَ خُفَّيْهِ فَقُلْت نَسِيت غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» وَرَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ» قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ كَانَ يُعْجِبُنِي هَذَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ كَانَ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَإِخْبَارُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَرِوَايَةُ قَوْلِهِ كَرِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا عَنْ جَنَابَةٍ» وَالْأَخْبَارُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ كَثِيرَةٌ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ مَا قُلْت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ حَتَّى قَالَ الْكَرْخِيُّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْمَسْحِ لِشُهْرَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهَا نَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِالسُّنَّةِ إلَى أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ سَاكِتٌ عَنْهُ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ فِي " أَرْجُلِكُمْ " تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: ٦] يَدْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْغَايَةِ وَمَسْحُ الْخُفِّ غَيْرُ مُغَيَّا هَذَا بَحْثٌ طَوِيلٌ فَيُطْلَبُ مِنْ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا (مِنْ كُلٍّ حَدَثٍ مُوجِبُهُ الْوُضُوءُ لَا لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ) لِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ آنِفًا وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَتَكَرَّرُ عَادَةً فَلَا حَرَجَ فِي النَّزْعِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْجِنَايَةُ أَلْزَمَتْهُ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَمَعَ الْخُفِّ لَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَ أَعْضَاءَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْحِ الْخُفِّ انْتَهَى قَالَ الْفَاضِلُ قَاضِي زَادَهْ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَسْحِ الْخُفِّ وَبَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ غَسْلًا حَقِيقِيًّا فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَيْفَ وَمِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الرِّجْلَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ غَسْلُهُمَا غَسْلًا حَقِيقِيًّا إلَّا بِإِسَالَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا لَا بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمَلْبُوسَيْنِ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَسْحِ الْخُفِّ وَبَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ غَسْلًا حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا وَمَسْحُ الْخُفِّ غَسْلٌ حُكْمِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُسْلًا حَقِيقِيًّا فَهُوَ مُسَلِّمٌ لَكِنْ يَتَأَدَّى الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَبَيْنَ غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي صُورَةِ الْجَنَابَةِ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ انْتَهَى
أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مُخْتَلِفَةٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عُرْفًا فَلِأَنَّهَا لَا تُغْسَلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْحِ الْخُفِّ، وَلَا كَذَلِكَ الْغُسْلُ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ مُتَّحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ تَدَبَّرْ وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ دُونَ الْمُغْتَسَلِ لَكَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute