وَسُنَّتِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِزِيَادَةِ أَحْكَامٍ تَعَلَّقَتْ بِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ دُونَ ذِكْرِ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمِقْدَارُ الزَّائِدُ عَلَى الرُّكْنِ سُنَّةٌ (يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْفَجْرِ وَأُولَيَيْ الْعِشَاءَيْنِ) يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تَغْلِيبًا (أَدَاءً وَقَضَاءً) هُوَ قَيْدٌ لِلثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ فَلَا يَجْهَرُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ بِعَرَفَاتٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى هَذَا الزَّمَانِ خِلَافًا لِمَالِكٍ فِيهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ: وَيَجْهَرُ فِي تَرَاوِيحَ وَوِتْرٍ بَعْدَهَا وَقَيَّدْنَا الْوِتْرَ بِكَوْنِهِ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْهَرُ فِي الْوِتْرِ إذَا كَانَ فِي رَمَضَانَ لَا فِي غَيْرِهِ كَمَا أَفَادَهُ ابْنُ النُّجَيْمِ فِي بَحْرِهِ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى إطْلَاقِ الزَّيْلَعِيِّ الْجَهْرَ فِي الْوِتْرِ إذَا كَانَ إمَامًا انْتَهَى وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى الْوِتْرَ فِي رَمَضَانَ يَجْهَرُ سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ أَوْ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَفِي تَقْيِيدِهِ بِبَعْدِهَا وَإِيرَادِهِ عَلَى إيرَادِ الزَّيْلَعِيِّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوِتْرِ بِالْجَمَاعَةِ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا مَعَ الْكَرَاهَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْإِمَامَةُ لَا تُتَصَوَّرُ بِغَيْرِ الْجَمَاعَةِ فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ فِيهِ فَالْإِطْلَاقُ يَكُونُ فِي مَحَلِّهِ تَدَبَّرْ.
(وَخُيِّرَ الْمُنْفَرِدُ) بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ (فِي نَفْلِ اللَّيْلِ) ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ لِكَوْنِهَا مُكَمِّلَاتٍ لَهَا فَيُخَيَّرُ فِيهَا كَمَا يُخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا جَهَرَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ؛ وَلِهَذَا يُخْفِي فِي نَوَافِلِ النَّهَارِ، وَلَوْ كَانَ إمَامًا.
(وَفِي الْفَرْضِ الْجَهْرِيِّ إنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ) أَيْ إذَا أَرَادَ الْمُنْفَرِدُ أَدَاءَ الْجَهْرِيِّ خُيِّرَ إنْ شَاءَ جَهَرَ لِكَوْنِهِ إمَامَ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ؛ إذْ لَيْسَ خَلْفَهُ مَنْ يُسْمِعُهُ.
(وَفُضِّلَ الْجَهْرُ) لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ صَلَّتْ بِصَلَاتِهِ صُفُوفٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ وَقَيَّدَ بِالْجَهْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَيَّرُ فِي غَيْرِهِ بَلْ يُخَافِتُ حَتْمًا وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إذَا قَضَى الْجَهْرَ يُخَافِتُ وَلَا يَتَخَيَّرُ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إنْ أَمَّ فِيهَا جَهَرَ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ خَافَتَ وَلَا يَتَخَيَّرُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ يَخْتَصُّ إمَّا بِالْجَمَاعَةِ حَتْمًا أَوْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا انْتَهَى لَكِنْ هَذَا الْحُصْرُ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْجَهْرِ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَدَاءِ كَمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: هُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: هُوَ الْأَصَحُّ.
(وَيُخْفِيَانِ) أَيْ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ (حَتْمًا) أَيْ وُجُوبًا (فِيمَا سِوَى ذَلِكَ) أَيْ فِيمَا سِوَى الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ التَّرَاوِيحَ وَالْوِتْرَ لِعَدَمِ الْتِفَاتِهِ إلَى مَا سِوَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَقِلَّةِ.
(وَأَدْنَى الْجَهْرِ) فِي حَقِّ الْإِمَامِ (إسْمَاعُ غَيْرِهِ) أَيْ أَحَدًا سِوَاهُ فَإِنَّ الْغَيْرَ بِمَعْنَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَأَعْلَاهُ أَنْ يُسْمِعَ الْكُلَّ لَكِنْ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَجْتَهِدَ نَفْسَهُ بِالْجَهْرِ، فَإِنَّ سَمَاعَ بَعْضِ الْقَوْمِ يَكْفِي كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ إسْمَاعُ الْكُلِّ فَلَوْ سَمِعَ رَجُلَانِ فِي الْمُخَافَتَةِ لَمْ يَكُنْ