[افتقار القلب إلى الله تعالى وحاجته إلى عبادته وحبه والإنابة إليه]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية].
إذاً: القلب محتاج إلى الله عز وجل مفتقر إليه، وافتقار القلب إلى الله عز وجل يكون من جهتين: الجهة الأولى: جهة تحقيق العبودية، وهي: أن يكون القلب عابداً وخاضعاً ومحباً لله سبحانه وتعالى، وهذه هي الغاية.
والجهة الثانية: من جهة الاستعانة والتوكل والاعتماد والاعتضاد، وهذه هي العلة الفاعلة، وهي: الوسيلة.
وتلاحظون أن الله عز وجل قرن في القرآن الكريم كثيراً بين العبادة والتوكل، وبين العبادة والاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣]، والمقصود من الاقتران بين العبادة والاستعانة هو: أن يكون القلب متعلقاً بالله عز وجل من جهة الغاية ومن جهة الوسيلة الموصلة إليه.
فمن جهة الغاية: أن يكون الله غايته، فلا يريد إلا الله، ولا يحب إلا الله، ولا يعظم إلا الله سبحانه وتعالى، ومن جهة الوسيلة: فلا يستعين إلا بالله، ولا يتوكل ولا يعتمد ولا يرجو من المخلوقين شيئاً، وإنما يرجو ذلك من الله، فحينئذٍ يكون قد حقق العبادة من جهتين: من جهة الغاية، ومن جهة الوسيلة الموصلة إليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ، ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة].
هذا الكلام يعتبر قاعدة، وهو أن القلب لا يرتاح ولا يصلح ولا ينجو ولا يشعر بالطمأنينة إلا باعتماده على الله، فهذه القاعدة اكتشفها شيخ الإسلام ابن تيمية من جهتين: من جهة دلالة الشرع عليها، ومن جهة الفطرة التي هي الطبيعة الإنسانية، فمن الجهتين استطاع شيخ الإسلام أن يصل إلى هذه القاعدة، وهذه القاعدة مقررة عند أهل العلم سابقاً.
وهناك فصل في كتاب ابن القيم: (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) وهو كتاب مطبوع في مجلدين، ففي المجلد الأول: فصل في أن القلب لا راحة له ولا طمأنينة له ولا سكون ولا لذة إلا بمعرفة معبوده ومألوهه وهو الله سبحانه وتعالى، وقد حشد فيه كثيراً من الأدلة على هذه القاعدة، فمن الأدلة الشرعية على هذه القاعدة قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، ومنها أيضاً ما يمكن استخراجه من قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:١٢٤]، فإنه إذا كان الإعراض فيه المعيشة الضنك، فإن الإقبال فيه المعيشة الطيبة.
ولهذا يقول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧]، والمقصود بالحياة الطيبة أي: في الدنيا، وهذا غير الآخرة.
فهذه الدلائل الشرعية تدل على أن القلب لا سعادة له ولا طمأنينة له إلا بمحبة الله عز وجل والعبودية له، ومما يدل على ذلك: الفطرة، وهذا أمر معروف في طبيعة الإنسان، فإن الواقع يشهد بأنه لا راحة للنفس ولا طمأنينة لها إلا بالله عز وجل، فإذا فقد الإنسان العبودية لله والمحبة لله عز وجل فإنه يدخله الهم والشقاء والتعاسة والانحراف عن منهج الله عز وجل بقدر بعده.