بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد: فقد سبق الحديث عن منزلة العبودية، وبيان أن المصنف رحمه الله ذكر ثلاثة أمور في منزلة العبودية، وزدناها حتى أوصلناها إلى العشرة، وفي هذا الدرس سنبدأ بذكر بيان الشيخ رحمه الله عن أنواع العبودية، وذلك أن العبد قد يطلق ويراد به المعبد، وقد يطلق ويراد به العابد، فإذا أطلق وأريد به المعبد فإن العبودية تكون حينئذ بمعنى: الخلق، وبمعنى الإيجاد والربوبية، وهذا النوع يمكن أن نطلق عليه (العبودية الاضطرارية)، وهي التي لا إرادة للإنسان فيها، وحينئذ توافق معنى الخلق ومعنى الإيجاد ومعنى الربوبية، مثل خلق الله سبحانه وتعالى للناس، ومثل مطاعمهم ومشاربهم وحاجتهم لذلك، وحاجتهم للباس، وحاجتهم لدفع الأسباب عن أنفسهم، مثل المرض يدفع بالعلاج، وكذلك الجوع يدفع بالأكل وهكذا، وهذه العبودية يستوي فيها المؤمن والكافر، ويستوي فيها البر والفاجر، وتستوي فيها كل المخلوقات، فكل المخلوقين هم عباد لله عز وجل بهذا الاعتبار، سواء أكانوا من الإنس، أم من الجن، أم من الملائكة، أم من الجمادات، أم من الحيوانات، فكلهم عباد لله عز وجل بهذه الاعتبار، بمعنى أنهم معبدون لله، فإن إرادة الله عز وجل إرادة شاملة عامة، وقدرته نافذة لا يخرج عنها شيء، ولا يمكن أن يحصل شيء في حياة الناس إلا بقدر الله عز وجل وقدرته وإرادته، وحينئذ فسواءً أكان الإنسان طائعاً أم كارهاً فإنه لابد من أن يكون عبداً لله؛ لأنه لا يمكن أن يخرج عن هذه العبودية، فالذي أوجد الإنسان من العدم هو الله سبحانه وتعالى، فجعله ذليلاً لا يمكن أن يخرج عن خلقه عز وجل، ولا عن تدبيره بأي وجه من الوجوه.
والإيمان والإقرار بهذا النوع من العبودية هو إقرار وإيمان بتوحيد الربوبية، وقد سبق أن بينا أن توحيد الربوبية هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير والملك، فالله عز وجل هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو المدبر وحده، وهو المالك وحده، فإذا آمن أحد بهذا التوحيد فإنه حينئذ يكون قد أقر بالعبودية الجبرية، وتسمى الاضطرارية، وهي التي لا خيار للإنسان في فعلها أو تركها، إذ إنما هو خلق الله عز وجل القائل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:٨٢]، فالذي نقله من العدم إلى الوجود هو الله عز وجل، فهو عبد له بهذا الاعتبار.
والشيخ رحمه الله يقول: وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبد.
يعني: المذلل الخاضع من غير اختيار، فالذي عبده ودبره وصرفه هو الله تعالى، وبهذا الاعتبار يكون المخلوقون كلهم عباداً لله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار، وأهل الجنة وأهل النار؛ إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم أشأ، وما شئت إن لم يشأ لم يكن؛ لأن إرادته -سبحانه وتعالى- هي النافذة.
ثم ذكر الدليل على ذلك، وهو قول الله عز وجل:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:٩٣] يعني: إلا سيأتي إلى الله عز وجل وهو خاضع مقر، وليس له أن يهرب يوم القيامة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه:(اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).