[تنوع بعض الأعمال إلى عبادة وغير عبادة]
ثم ذكر قضية في غاية الأهمية وهي أن بعض الأفعال تنقسم إلى عبادة وغير عبادة، وبعضها ليست منقسمة، فالتي ليست منقسمة لا بد أن تكون لله خالصة، وأما المنقسمة فهي بحسبها، فالمحبة اسم عام منقسم، وأحياناً الإنسان يحب محبة طبيعية فلا يكون عليه تثريب، وأحياناً تكون محبته بذل وخضوع، وهنا يكون تعبد لغير الله عز وجل، فيكون عمله شركاً.
فمثلاً: المحبة يمكن أن تضاف إلى الله وغيره، لكن هناك نوع من الأعمال لا يمكن أن يضاف إلا إلى الله، مثل الحسب، مثلاً، يقول الشيخ: فجنس المحبة يكون لله ولرسوله، والإرضاء لله ورسوله، فأنت ترضي الله باتباع أمره، وترضي الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع أمره، ولهذا يقول: والله ورسوله أحق أن يرضوه، فجمع بين الله والرسول في الرضا، وهذا يدل على أن الرضا يمكن أن يكون لله، ويمكن أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا بضوابطه كما سيأتي معنا إن شاء الله.
والإيتاء لله ولرسوله، لكن العبادة مثل الخوف والخضوع والتوكل هذا لا يكون إلا لله عز وجل، ولهذا لم ترد إلا مضافة إلى الله.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:٥٩].
فالإيتاء يمكن أن يكون من الله ويمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، وقال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:٥٩]، لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله؛ لأن الحسب عمل قلبي لا يكون إلا الله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:٥٩].
وهذه الآية فيها من البيان العجيب: إيتاء لله ورسوله في البداية، وحسب لله وإيتاء لله ولرسوله في النهاية، وهذا يدل على أن الحسب لا يكون إلا لله فقط، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:٥٩]، ثم قال: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:٥٩]، فجعل الإيتاء لله والرسول، لكن في الوسط قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:٥٩].
ولم يدخل الرسول معه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحسب عبادة، ومعنى الحسب يعني: الكافي، فالكفاية لا تكون إلا من القادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى.
ولهذا يقول: وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، فالحسب لله، لكن الإيتاء يمكن أن يكون من الله كالقرآن، ويمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كأخبار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة وأوامره.
لكن كيف نخرج هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤].
فهم هذه الآية بعض القبوريين فهماً فاسداً، قال: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤]: إن الله حسب للنبي، والمؤمنين حسب له أيضاً، وهذا فهم فاسد، فإن العطف في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤] ليس على لفظ الجلالة، يعني: ليس: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:٦٤]، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، وإنما عطف على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الله حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، العطف هنا في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤]، يحتمل أمرين: يحتمل أن يكون العطف على لفظ الجلالة، الله، وهذا يتضمن معنىً فاسداً وباطلاً، وهو أن الرسول حسبه الله وحسبه المؤمنون، وهذا خطأ فإن الحسب وهو الكفاية لا يكون إلا من الله وحده، ويتضمن أن يكون العطف في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤]، عطفاً على الرسول، فيكون معنى الآية: (يا أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين حسبكم الله)، فيكون الحسب لله، ويكون الله حسباً للنبي وحسباً للمؤمنين أيضاً.
وهذه القضية ناقشها ابن تيمية في منهاج السنة، وناقشها أيضاً ابن القيم في بداية زاد المعاد.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.