ثم يتحدث المؤلف عن التعبد لغير لله سبحانه وتعالى، سواءً التعبد المطلق الذي يوصل إلى الشرك الأكبر مثل: عبادة غير الله سبحانه وتعالى، أو أن يكون بنوع من التعبد مثل: الذل، والافتقار، والحاجة إلى الخلق، ونحو ذلك من الأعمال التي لا توصل إلى الشرك الأكبر، وإنما هي من نقص كمال التوحيد الواجب.
فالقدح في التوحيد نوعان، النوع الأول: قدح في أصل التوحيد، وذلك يكون بالكفر والشرك بالله المخرج عن دائرة الإسلام، والنوع الثاني قوادح في كمال التوحيد الواجب، ويكون ذلك بالشرك الأصغر، مثل التمائم التي لا يعتقد أصحابها فيها أنها تنفع وتضر بذاتها، وإنما يتعلق بها مع أنها ليست سبباً شرعياً ولا طبيعياً، وهذا يعتبر من الشرك، وهو من التعبد لغير الله عز وجل، لكنه ليس تعبداً مطلقاً تاماً، وهكذا الحال في الرقى التي لا يكون فيها استغاثة بغير الله عز وجل، وإنما تكون بالكلمات المجملة والغريبة في المعنى، لكن ليس فيها استغاثة بغير الله، وهكذا الحال في مسألة الغلو في الصالحين، وكل قدح من القوادح في التوحيد وفي عبادة الله عز وجل فإنه لا يخلو من الحالتين السابقة: إما أن يكون قدحاً في أصل التوحيد، أو يكون قدحاً في كمال التوحيد، والقدح في كمال التوحيد أحياناً يكون قدحاً في كمال التوحيد الواجب، ويكون فعله حينئذٍ من الشرك الأصغر أو من المحرم، أو قدحاً في كماله المستحب، كما هو الحال فيمن استرقى أو اكتوى أو خالف أحد الأوصاف الواردة في حديث السبعين ألفاً، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فالسبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بقوله:(هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، مع أن الاسترقاء والاكتواء ليس محرماً، وإنما هو مكروه، وهكذا سؤال الخلق فيما لا يصل إلى المحرم؛ فهذا يعتبر من القدح في كمال التوحيد المستحب.
وأحياناً قد يكون الإنسان عنده قدح في التعبد لله، مثل التعلق بما في أيدي الخلق، وعدم التوكل الحقيقي على الله سبحانه وتعالى، كالتعلق بالطبيب عندما يكون الإنسان مريضاً، أو التعلق بصاحب العمل إذا كان الإنسان موظفاً عنده، أو التعلق بالدنيا ومتاعها والخوف من الموت، والتشبث بهذه الدنيا والتعلق بها، والشعور بأن الآخرين يملكون شيئاً من رزقه الذي أعطاه الله عز وجل إياه، أو الخوف من الخلق الذي يمنعه من بعض الأعمال الصالحة، ويمنعه من الدعوة إلى الله، ويمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمنعه من الإصلاح، وهناك أشخاص يحصل عندهم الخوف من أولياء الشيطان ومن الظالمين، يوصله هذا الخوف أحياناً إلى ترك كثير من الأعمال الصالحة، فيترك الدعوة، ويقول: إنه إذا دعا إلى الله عز وجل فإنه قد يكتب عنه! وقد يلحقه ضرر في عمله أو في ولده أو في نفسه! وأكثر هذا وهم، ولو ترتب على ذلك شيء من هذا الأمر، فإنه لا يجوز للإنسان أن يترك ما أوجبه الله عز وجل عليه، وفي إمكانه أن يؤدي هذا الواجب، وإنما يسقط عنه في حال عدم القدرة التامة في فعله، أما في حال إمكان القدرة عليه، لكن لوجود هاجس وخوف عند الإنسان، هذا ينطبق عليه قول الله عز وجل:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:١٧٥].
وهكذا الحال في التعلق بالمال والدنيا، جاء في الحديث:(تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
قوله:(تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) هل الإنسان يتعبد للدينار والدرهم عبادة كالصلاة الصيام ونحو ذلك؟ لا، وإنما يتعبد لها بالتعلق بالدنيا، وبالتعلق بالدرهم والدينار، وطلب ما في أيدي الناس، وقد يفعل المحرم لأجلها، وقد يترك الواجب لأجلها، هذا التعلق هو نوع من التعبد لغير الله عز وجل، وإن كانت هذه الأنواع ليست في الحكم الشرعي بمنزلة واحدة، فالذي يتعبد بغير الله ويسجد للصنم أو يتعلق بالأولياء والأضرحة، أو يوالي أعداء الله عز وجل ويحبهم لدينهم، أو نحو ذلك من الأعمال التي قد توصل إلى الشرك الأكبر، هذا ليس مثل من يسترقي أو يكتوي، أو يقوم ببعض الأعمال التي تنقص عبادته، ويكون هناك جزء من التعبد عنده، مصروف لغير الله عز وجل؛ فهذه في الحكم الشرعي ليست بمنزلة واحدة، لكن يجمعها جميعاً التعبد لغير الله عز وجل، ولو بقدر بسيط.
ومن التعبد لغير الله: عشق الصور مثلاً أو إنسان يعشق امرأة جميلة مثلاً، أو يعشق غلاماً أمردَ يتعلق به، ويشغله هذا التعلق، وفي كل مكان يفكر فيه! ويجعله هو ديدنه حتى في وقت صلاته! أو في وقت أكله! أو في وقت نومه! وقد يصيبه والعياذ بالله من التعاسة والنكد والشقاء الشيء الكثير.
والحقيقة: أن أساس العبادة هو المحبة، وعدم المحبة حقيقتها التعلق.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في غير هذا الكتاب: إن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى