[نشأة التصوف]
وقبل أن نتحدث عن شهود الصوفية لهذه الحقيقة لابد من أن نُعرف أولاً بالصوفية، ولا بد من أن نتحدث عن نشأة التصوف والصوفية في حياة المسلمين, ثم نذكر باختصار الكلام على أهم العقائد التي يتبناها الصوفية, ثم بعد ذلك نعلق على كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضع عن شهود الصوفية للحقيقة الكونية, واعتبار هذه الحقيقة الكونية الأساس في العبودية.
اختلف الباحثون في الحديث عن نشأة التصوف, وأصح الأقوال في نشأة التصوف هو أن الصوفية دين من أديان الهند نقل إلى العالم الإسلامي عن طريق الزنادقة.
فإن الهنود الوثنيين عندهم فلسفة ورياضة يسمونها الثيوصوفية, و (الثيوصوفية) هذه معناها: عاشق الإله, أو عاشق الله.
فالثيوصوفية مثل الفلسفة، فإن كلمة (فيلاسوف) معناها: محب الحكمة, والحكمة هي أسرار الأشياء واللطائف التي تكون في الأشياء ومكونات الأشياء.
ومن هنا سمي الفلاسفة فلاسفة؛ لأنهم -حسب زعمهم- يسعون من أجل الوصول إلى الحكمة, فكلمة (فيلاسوف) مركبة من كلمتين (فيلا) و (سوف) , فـ (فيلا) معناها الحكمة, و (سوف) معناها محب، فالمعنى والترجمة لها أنها (محب الحكمة) , فهذه معنى (فيلا سوف)، وكذلك معنى (ثيو صوف) , أي: عاشق الإله، فإن (صوف) بمعنى: محب أو عاشق, و (ثيو) بمعنى: الإله.
وكانت الهنود عندهم رياضات يقومون بها، وهذه الرياضات يزعمون أنها توصلهم إلى الإشراق, وأن هذه الرياضات إذا تدربوا عليها بطرق معينة وبأساليب معينة فإنهم سيصلون إلى مراحل عالية جداً.
من هذه المراحل المخاطبات والمكاشفات التي تحصل لهم، ومن ذلك -أيضاً- أنهم قد يظنون أنهم يتصرفون في الأشياء بناء على هذه الرياضات.
وهذا ما ذكره أبو الريحان البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة)، وهذا الكتاب هو عبارة عن كتاب تاريخي يتكلم عن البلدان وأديان البلدان, ومؤلفه هو رجل جغرافي ورحالة كان يتنقل في البلاد, وكلما نزل في بلد من هذه البلدان يتحدث عن طبيعة هذه البلاد وعن دينها, فألف هذا الكتاب عن الهند لما رأى فيها من العجائب والغرائب، وكانت الهند من أعرق البلدان والشعوب في قضايا الفلسفة.
والمهم أن هذا الكتاب -الذي هو تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة- تحدث عن أديان الهند، وذكر أن عندهم طائفة تسمى (الثيوصوفية)، وذكر من أوصافهم أنهم يعشقون الإله, وأنهم يتصورون أنهم إذا تعلقوا بالإله فإن الإله يعطيهم من فيضه ويعطيهم من جوده ما يمكن أن يتصرفوا به في الكون من حولهم.
وانتقلت هذه الديانة إلى العالم الإسلامي عن طريق الزنادقة كما سبق أن ذكرت, فإن الأمة المسلمة لما أظهر الله سبحانه وتعالى دينها, وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزيرة، وانطلقت الفتوحات في زمن أبي بكر الصديق وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يكسروا شوكة أمم كثيرة، ومنهم الفرس والهنود وأمثال هؤلاء, فدخل كثير من أبناء هذه البلدان المفتوحة في دين الله سبحانه وتعالى نفاقاً, فلما دخلوا نفاقاً أرادوا أن يفسدوا هذا الدين من داخله, وذلك عن طريق إثارة بعض العقائد الباطلة وبعض المفاهيم المنحرفة, ومحاولة تغيير الدين من داخله.
وبالفعل ظهرت كثير من البدع التي لا تمت إلى جوهر الإسلام بأي وجه من الوجوه, وسنلحظ عندما نستعرض بعض عقائد هؤلاء أنه لا يتصور أن إنساناً ينتسب إلى الإسلام ومع هذا يقول بهذه العقائد وهذه الأقوال.
وبهذا ظهر دين الشيعة, وظهر -أيضاً- التصوف من خلال هؤلاء, وظهرت الباطنية الذين يزعمون أن مشايخهم آلهة يديرون الكون ويتصرفون فيه، كما سيأتي ذكر بعض عقائدهم وأفكارهم.
فأدخل الزنادقة ذلك الانحراف في حياة المسلمين, فلما أدخله الزنادقة في حياة المسلمين وجدوا طائفة من المسلمين يتميزون بالزهد ويتميزون بالتقشف ويتميزون بكثرة العمل الذي يكون متعلقاً بالعبادة.
فلما وجدوا هؤلاء -لا سيما مع كثرة الجهل- أظهروا لهم الزهد وأظهروا لهم التعبد, ثم بعد ذلك أظهروا شيئاً من عقائدهم قليلاً قليلاً حتى ظهرت هذه الطائفة التي سميت فيما بعد بالصوفية.
ولا يعني هذا أن كل من انتسب إلى الصوفية زنديق, فكل دعوة من الدعوات وكل مذهب من المذاهب فيه مخدوعون كثر, لا يعرفون حقيقة هذا المذهب, ولا يعرفون فكرته الأساسية, وإنما ينتسبون إليه مجرد انتساب, وربما أخذوا بعض المظاهر العامة فيه وانتسبوا إليه.
وهذا يدل على أنه ليس كل واحد من الصوفية لابد من أن يكون زنديقاً يريد هدم الإسلام من الداخل.
لكن الذين نقلوها إلى العالم الإسلامي, والذين دبروا هذه المكيدة للمسلمين؛ لاشك في أنهم زنادقة، كما سيأتي في الكلام عن شيء من عقائدهم، هذه هي نشأة الصوفية وهذه هي بدايتهم.