[الترفع عن سؤال الناس من كمال العبودية لله]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا المعنى في الصحيح.
وفيه أيضاً: (لئن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)، وقال: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك).
فكره أخذه مع سؤال اللسان، واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)].
يعني: الحقيقة أن التعلق بالدنيا يجعل الإنسان أسيراً لها، ويجعل الإنسان محتجاً إليها ويجعله يبخل، لكن عندما يكون الإنسان في نفسه قناعة تامة، أن هذه الأموال أو الرئاسات أو أياً من أعراض الدنيا إنما هي عبارة عن وسائل وليست غايات، فإنه سيبذل حينئذ ولن يندم على شيء يبذله، وسيعز نفسه ويبعد نفسه عن السؤال والحاجة، وسيكون هذا الشخص عزيزاً بالله سبحانه وتعالى، ومتعلق القلب بالله سبحانه وتعالى.
لكن عندما يتعلق قلبه بالمال تجد أنه ذليل لهذا المال، أحياناً قد يمتنع الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بسبب أنه يخاف على وظيفته من الفصل مثلاً، أو بسبب أنه يخاف على نفسه السجن، فهو يعظم ذاته إلى درجة كبيرة جداً.
والواجب أن يكون الإنسان متعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن هذه أرزاق تحصل للإنسان وقد تمتنع عنه، وكم من التجار الذين بلغوا الغاية في الغنى، وفي لحظة خسر كل ما يملك، وأصبح مديناً، ويطالبه الناس بحقوقهم.
فمثل هذا الإنسان إذا كان متعلق القلب بالمال سينهار تماماً، وسيكون في غاية الافتقار إلى الناس، بل سيتحطم غاية التحطم، لكن عندما يكون قلبه متعلقاً بالله سبحانه وتعالى، فإنه لن يحصل له مثل ذلك، وكم من الملوك الذين حكموا كان أمرهم مسموعاً، ونهيهم موطن التنفيذ؟ ومع ذلك تأتي دولة ظالمة أخرى، فتسقط حكومته ويصبح أسيراً في أيديهم، أو يصبح شريداً طريداً، مع أنه كان في يوم من الأيام كل الناس تطيعه، فإذا كان الإنسان معلق القلب بهذه الدنيا سيحصل له من الأثر الكبير ما يجعله في غاية الضعف وفي غاية الذلة.
وانظروا مثلاً: إلى الأحداث التي حصلت قبل سنتين، عندما أغارت دولة ظالمة كافرة متجبرة وهي: أمريكا على دولة مسلمة وهي دولة: طالبان، فهذا الحدث فيه كثير من الدروس والعبر، فقد كانت هذه الحكومة الإسلامية الناشئة الصغيرة تعلم أن الحكم وكرسي الحكم ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصود لتحقيق العبودية لله عز وجل في حياة الناس.
ولهذا عندما طالبوهم بغطرسة وعنجهية بعيدة عن العقل والعدل، وبعيدة عن الفكر السوي، وعندما طالبوهم بأمور لا يرضاها المسلم أبداً رفضوها، فعندما هددوهم كان حاكمهم يستدل بقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣].
وما زالت نظرتهم مستمرة بهذه الطريقة القوية، لم يترددوا حتى مع تفكك دولتهم ومع سقوطها؛ لأنها دولة ضعيفة مع دولة متكبرة قوية، لكن القوة ما زالت مستمرة؛ لأن هذا أمر قدره الله علينا من هذه الدولة الظالمة، ونحن نجاهدها في سبيل الله، حتى نخرجها بإذن الله سبحانه وتعالى، ومن يمت منا فهو شهيد عند الله عز وجل، ومن يبق حياً، فإنه يستمر في مجاهدة هذه الأمة الظالمة المتجبرة، فإما أن يتحقق النصر أو الشهادة.
إن هذا المستوى من العبودية لله عز وجل، مستوى عال ومرتفع جداً، وينبغي على الإنسان أن يربي نفسه على مثل هذه المستويات، فافترض يا أخي! أنك في يوم من الأيام خسرت كل ما تملك دفعة واحدة، خسرت وظيفتك، وخسرت أهلك إذ ماتوا جميعاً، فإذا كان واحد من الإخوة الأفغان خسر أكثر من ثمانية عشر من أهله حين سقطت قنبلة على بيته!! فمثل هذه الأحداث ينبغي للإنسان أن يكون عنده من الصبر ومن اليقين بالله، والتعلق بالآخرة، وبالله عز وجل ما يكون وقعها على نفسه بسيطاً، تخيل أنك خسرت كل شيء، فإن أصحاب النفوس الضعيفة، والذين لا إيمان لديهم قد يلجئون إلى الانتحار، أو يصابون بشيء من الجنون، لكن أهل الإيمان يعلمون أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره، وأن هذا أمر مكتوب عليه قبل أن يخلقه الله عز وجل، وأن عليه أن يصبر ويحتسب، وأن هذه الدنيا ليست هي كل شيء، وأن عليه أن يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وحينئذ ستقع هذه المشكلة على نفسه وقعاً خفيفاً، ولن يكون لها الموقع الكبير في نفسه.