للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع الأقدار في باب الاحتجاج بالقدر]

القدر نوعان: نوع يعتبر من المصائب، ونوع يعتبر من المعائب.

فأما المصائب فإن المسلم يرضى بها ويصبر عليها ويحتسب عند الله عز وجل.

وأما المعائب وهي العيوب التي ينتقد الإنسان فيها فإنه لا يجوز له أن يمارسها.

والفرق بين المصائب والمعائب يكون من ناحيتين: الناحية الأولى: أن المصائب هي الأقدار التي يقدرها الله عز وجل على الإنسان دون اختيار من الإنسان وإرادة منه، مثل حادث سيارة، مثل مرض جسدي أو نفسيَّ أياً ما يكون، فيصبر عليه الإنسان.

والنوع الثاني من الأقدار التي تكون من المصائب: هي التي تكون بعد الفعل، يعني: أحياناً الإنسان قبل الذنب يعتبر الذنب بالنسبة له من المعائب، لكن بعد فعل الذنب وتوبته منه يعتبر من المصائب.

يعني: مثلاً إنسان أراد أن يأكل الربا؛ لأنه محتاج إلى المال وذهب إلى البنك وأثناء ذهابه إلى البنك يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر الله عليّ! كيف قدره الله عليك وأنت قادر على الرجوع عن البنك؟ هذا كلام غير صحيح أبداً، لأنك اخترت هذا الأمر بمشيئتك.

فإن قالوا: كيف والله عز وجل يشاء أن أفعل هذا العمل، وهو بقضائه وقدره؟ نقول: نعم كل فعل سواءً كان خيراً أو شراً بقضاء الله وقدره، لكن أنت اخترت الشر.

ولهذا لعل من القصص التي تبين هذه القضية بشكل دقيق كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سرق رجل.

فلما جيء به إليه قال: سرقت بقدر الله.

قال: وأنا أقطع يدك بقدر الله) وهكذا قد يقول شخص: أنا زنيت بقدر الله.

ويحتج على الفواحش وعلى المحرمات بالقدر.

نقول: ويعذبك الله عز وجل يوم القيامة وعليك الإثم كذلك بقدر الله.

فإذا قال: كيف يعذبني وقد خلق هذه الأشياء؟ نقول: خلق الله عز وجل أموراً محرمة، وخلق أموراً ضارة في الكون وخلق السمّ؛ فهل تشرب السمّ؟ خلق الله عز وجل نباتات مؤذية وضارة لحكم يريدها سبحانه وتعالى، قد تبدو لنا وقد لا تبدو، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥] فهل يمكن أن تتناولها.

وخلق سبحانه وتعالى مجرمين، فهل تذهب إليهم؟ ولهذا سيأتي كلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو أن شخصاً جاءك وأخذ مالك وسرق بيتك وأخذ سيارتك، فهل تسلم له كل هذا وتقول: هذا قضاء الله وقدره؟ حينئذٍ تكون عرضة للمجرمين، وستكون ميت الإرادة، ولن يكون لك أي إرادة؛ ولهذا مقتضى كلام هؤلاء أن يمسخوا إرادة الإنسان، ويقولون: يجب أن تفنى إرادة الإنسان في إرادة الله عز وجل، فكل ما يريده الله في الكون يجعله الإنسان مراد الله عز وجل.

فمقتضى ومعنى كلامهم: أنه لو أنك تمشي مثلاً في السوق وجاء رجل وأدخل يده في جيبك وأخذ النقود التي في جيبك، تقول: هذه إرادة الله؛ فلا بد أن أجعل إرادتي مع إرادة الله، وإلا لو ما أراد الله لما أخذ هذا الرجل النقود من جيبي! ولمَرَّ من جانبي من دون أن يأخذ مني شيئاًً.

وهكذا لو أنه جاءك وأخذ منك مفتاح السيارة، وأخذ السيارة وذهب.

مع أن هذه أمور تأباها الفطر السليمة العقول الصحيحة، إلا أن هذا القول هذا لازمه، وقد يلتزم بعض الشيوخ الحمقى من الصوفية شيئاً من هذا القبيل، يعني: قد يأتي ويمر ويحذر من مصيبة دنيوية، ومع ذلك يقع فيها ويظن أنه بهذا العمل يتعبد لله عز وجل.

وهذا من جهله وضلاله والعياذ بالله.

لكن بالنسبة للمصائب، يصح للإنسان أن يحتج بقضاء الله فيها، فإذا قدر الله عليك مصيبة بدون إرادة منك! أو فعلت ذنباً ثم ندمت عليه ندماً شديداً بعد أن فعلته، وتبت إلى الله عز وجل؛ فإن هذا الذنب يعتبر في حقك بعد أن تبت وشعرت بالألم والحرقة بسببه مصيبة؛ لأنه أمر فات لا يمكن أن ترجع عنه، فيجوز أن تحتج بالقدر عليه، أما قبل أن يفعل الإنسان الفعل ويحتج بالقدر فهذا احتجاج فاسد غير صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>