[الشبه في الابتداع]
يقول: [وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام وعبادة الله بما لم يشرع الله في مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام:١٣٨]].
فأهل الجاهلية كانوا يخرجون بعض الأنعام من الغنم والبقر والإبل، ويجعلون هذه الأنعام لله سبحانه وتعالى مثل النذر، فينذرون هذه الإبل لأصنامهم، ويمنعون أحداً من الشرب منها أو الأكل منها البتة، ثم ينسبون ذلك إلى الله عز وجل، وكأنهم يقولون: إن الله عز وجل أمرنا بأن نخرج من أنعامنا ومن مواشينا وحرثنا هذا الشيء ونجعله حجراً على هذه الأصنام.
وهي بدعة مثل نسبتهم الأمر بالفاحشة إلى لله سبحانه وتعالى، وحينئذ فالابتداع وتحليل الحرام وتحريم الحلال من صفات المشركين، فهؤلاء حرموا الانتفاع بهذه المواشي وبهذه الأنعام وبهذا الحرث، وجعلوها محجورة لا يستفيد منها أحد، وإنما هي لآلهتهم التي لا تأكل ولا تشرب ولا تستفيد منها شيئاً، واعتقدوا أنها حرام لا يجوز لأحد أن يستفيد منها، فهؤلاء حرموا ما أحل الله سبحانه وتعالى، ثم نسبوا هذا التحريم إلى الله عز وجل، وهذا هو حقيقة البدعة، فإن البدعة هي تشريع ما لم يشرعه الله عز وجل، وهي تحريم ما أحل الله عز وجل، وتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، فالبدعة اختراع وإنشاء وتشريع ما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون بدعة كبرى تخرج عن الإسلام، وقد تكون بدعة أقل من ذلك.
يقول: [وكذلك في سورة الأعراف في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:٢٧] إلى قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:٢٨].
إلى قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٢٩] إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣١ - ٣٢] إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣]].
فبين أن القول على الله عز وجل بغير علم من خصال المشركين، وهكذا هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة وهي أن الإنسان مجبور على فعله، وأن الناس ينقسمون إلى خاصة وعامة، وأن العامة ملزمون بأحكام الشرع، والخاصة تسقط عنهم التكاليف، هؤلاء ابتدعوا كما ابتدع هؤلاء المشركين، وفي نفس الوقت احتجوا بالقدر كما احتج به المشركون، وهي مشابهة للمشركين واضحة.
ثم يقول الشيخ: [وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة].
وقد سبق أن بينا أن من بدع الصوفية ما يسمونه بالحقيقة والشريعة، فالشريعة عندهم عقيدة العامة ومنهج العامة، والحقيقة هي منهج الخاصة ممن سقط عنهم التكليف.
قال: [كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة].
وقد سبق أن بينا أنها الحقيقة الكونية العامة.
قال: [وطريق الحقيقة عندهم هو الرياضة والسلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه].
وقد سبق أن بينت طريقتهم في الوصول إلى هذه الحقائق وإلى الكشوفات وإلى الأذواق التي يدعونها عن طريق الخلوات والأذكار البدعية، والجلسات غير المشروعة التي يقول الغزالي عن أهميتها: ولا ينبغي للمريد أن يشتغل في خلوته لا بقراءة القرآن، ولا بحفظ الحديث، ولا بالعلم، ولا بأي شيء، وإنما يشتغل بورده فقط: وورده - كما سبق - إما تكرير الاسم المفرد (الله الله الله) أو تكرير الاسم المضمر، مثل: (هو هو هو)، وهكذا.
يقول: [ولكن بما يراه هو ويذوقه ويجده في قلبه الضال الغافل عن الله ونحو ذلك].
وسيأتي -إن شاء الله- أنهم يجعلون أذواقهم وكشوفاتهم مقدمة على النصوص الشرعية.
يقول: [وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقاً].
يعني: لا يحتجون بالقدر على كل الناس، وإنما يجعلون القدر خاصاً لأهل الحقيقة الذين وصلوا إليها، لكن بقية المسلمين أصحاب الشريعة لا يحتج بالقدر عليهم، وإنما يرون أن القدر شرف يوصل إليه عن طريق الرياضة والأعمال البدعية التي سبق أن أشرنا إليها.
قال رحمه الله: [بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وزعمهم ما يرونه وما يهوونه حقيقة، ويأمرون باتباعها دون اتباع أمر الله ورسو