[تقدير الله عز وجل لمقادير العباد]
علم الله عز وجل بأفعال العباد علم شامل، فالعباد مخلوقات لله، ونحن مخلوقات لله عز وجل، وقبل أن يخلقنا هو يعلم سبحانه وتعالى تفاصيل خلقنا، وهو يعلم أعمالنا قبل أن نوجد، وهو يعلم كذلك ما سنموت عليه من العمل، وهو يعلم سبحانه وتعالى أيضاً المنقلب الذي يصير إليه الإنسان، إما إلى الجنة وإما إلى النار، هذا العلم الذي يعلمه سبحانه وتعالى هو لشمول علمه سبحانه وتعالى بكل شيء.
وعندما خلق الخلق لم يظلم أحداً، فالله عز وجل غير ظلام للعبيد، خلق فيهم إرادات وخلق عندهم قدرات، وخلقهم في وضع وفي حال يمكن له أن يطيع، ويمكن له أن يعصي، كما قال الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠] قال المفسرون: طريق الخير وطريق الشر.
وجعل هناك أموراً تهديه للخير، وجعل هناك أموراً يمكن أن تدله على الباطل، لكن الأمور التي تهديه للخير أكثر، فجعل عنده الفطرة التي تجعله يشتاق إلى الخير ويحبه ويطمئن له، وجعل هناك ملكاً من الملائكة يدعوه إلى الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن للشيطان لمة وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، ولمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق).
وأنزل كتباً تشرح للناس الحقيقة الشرعية التي يجب عليهم أن يستمروا عليها، وجعل لهم عقولاً يستطيعون أن يميزوا بها بين الصواب والخطأ والحق والباطل.
وأرسل إليهم رسلاً يهدونهم ويعلمونهم ويشرحون لهم هذه الحقائق الشرعية، وجعل لهؤلاء الرسل علامات تدل على نبوتهم، ففرق بينهم وبين الداعية الكاذب، وجعل لهم المعجزات، هذه عصا موسى تنقلب إلى حية، وهناك فرق كبير بين عصا موسى التي انقلبت إلى الحية وبين عصي السحرة، ولهذا عرف السحرة أن عمله ليس كعملهم، لا لأن العصيَّ مثل الحية التي انقلبت بالنسبة لعصا موسى، يعني: حية كبيرة جداً، لكنها حية حقيقية تغيرت العصا من عصا طبيعية إلى حية حقيقية، بينما عصيهم هم إنما خدعوا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وهم يرونها عصاً والناس يرونها حيات، وهذا هو الخداع الذي يقوم به السحرة.
فالسحر لا يغير حقائق الأشياء، يعني: عندما يأتي إنسان ويضع شيئاً ويرفع المنديل عنه وتكون حمامة لا يعني: أن هذا الشيء حقيقة، مثلاً إبريق، هذا الإبريق تغير تماماً، فتغيرت مكونات الإبريق وصارت مكونات حمامة وطار لا، وإنما هو خداع لأعين الناس، وهذا هو فن السحر.
لكن الشاهد هو أن هذا -يعني: السحر- لا يغير حقائق الأشياء، وهذا هو الذي دفع السحرة أن يؤمنوا مباشرة، فقد كانت مملكة فرعون من أعظم الممالك المتخصصة في السحر، وقد انتقى أجود السحرة وأحسنهم، وعندما رأوا المعجزة التي جاء بها موسى مباشرة: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢] بل إنه هددهم بالقتل فأصروا على العمل الذي آمنوا به.
وهكذا في محمد صلى الله عليه وسلم عندما انشق القمر نصفين، وعندما خرج الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام.
وهكذا عندما يكلمه الشجر والحجر، وأنواع متعددة في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، منها: معجزات تتعلق بالأمور الحسية.
ومنها: معجزات تتعلق بالأمور العلمية.
ومنها: دلائل للنبوة على صدقه، وأنه لا يمكن أن يكذب.
الشاهد: أن هذه الأمور كلها أسباب تدعوه إلى الخير، كما أن هناك أسباب تدعوه إلى الشر مثل: وجود الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والشهوات المرغبة في الحرام والتي تزين الحرام، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:١٤] إلى آخر الآية.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل خلق النار فأمر جبريل أن ينظر إليها، فقال: إنه لا يراها أحد من عبادك ويدخلها) فحفها بالشهوات، وحف الجنة بالمكاره.
والشاهد من هذا الكلام كله هو: أن العبد مطالب بالعمل، وهناك إرادة حقيقية عند العبد يشعر بها، ولهذا لا يمكن للإنسان أن يكتشف القدر إلا بعد حصول العمل، يعني: الآن هذا كتاب بين أيديكم، أنا بإمكاني أن أقوم وأمزق الكتاب كله وأرميه، هل هذا صعب من ناحية إرادية أو من ناحية عملية؟ فأخذ الكتاب باليد وتمزيق الكتاب ورميه هنا والتحرك بالرجلين ليس أمراً صعباً من الناحية العملية.
وممكن أن آخذ هذا الكتاب وأن أكمل هذا الدرس وأن أخرج والكتاب معي، كلها ممكنة وقبل أن أعمل أنا مختار اختياراً تاماً، ولو انتهيت من العمل سواءً أنهيت الدرس أو مزقت الكتاب وخرجت، بعدما أنتهي من العمل أعلم أن الله عز وجل كتب هذا أو هذا، لكن قبل العمل لا يمكن أن تقول: إن الله عز وجل كتب عليك أن تمزق الكتاب وتخرج، يعني: كأنه جبرك، يعني: كأن هناك أحد يرفع يدك بدون إرادة منك أنت، ويأخذ الكتاب وأنت غير راغب، وهذه يدك تتحرك بدون إرادة منك وترمي الكتاب وتخرج، بل هذا أمر يشعر به الإنسان، وهو أمر فطري فيه،