[انحراف الصوفية في مقام العبودية]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: في الدروس الماضية تحدثنا عن تعريف العبودية، وأيضاً تحدثنا عن حقيقة العبودية الشرعية وعن أهميتها وأمثلة منها، وعن العلاقة بين العبودية والدين والعلاقة بين العبودية والإسلام، كما تحدثنا أيضاً عن تعريف العبودية شرعاً والضابط في هذا، وتحدثنا في الدرس الماضي عن أنواع العبودية، والعبودية الاضطرارية الموافقة لمعنى الربوبية، والعبودية الاختيارية الموافقة لمعنى الألوهية، وتحدثنا عن انحراف الصوفية في هذا الباب وأنهم اشتغلوا بتوحيد الربوبية وأهملوا توحيد الألوهية مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعظم من إنزال الكتب وإرسال الرسل وخلق الجن والإنس، وهو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وهو الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة، وهو الغاية العظمى، وهو أول الأمر وآخره، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله - وهذا هو توحيد الألوهية - دخل الجنة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع أهمية توحيد الألوهية ووضوح أن توحيد الألوهية هو الغاية، وأن توحيد الألوهية هو الأساس في دعوة الرسل؛ إلا أن أهل الكلام والصوفية انحرفوا في هذا الباب واشتغلوا علماً وعملاً بتوحيد الربوبية الذي لا يكفي وحده للإيمان، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هناك من يؤمن، لكن هذا الإيمان لا يكفي إذا كان معه الشرك، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦].
فأثبت لهم جزءاً من الإيمان، إلا أنه ليس الإيمان المنجي عند الله عز وجل، وهذا هو توحيد الربوبية.
والإيمان المنجي عند الله عز وجل هو توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ليس بينهما تضاد، وإنما بينهما اتفاق.
فتوحيد الربوبية هو الأساس لتوحيد الألوهية، فمن آمن بالربوبية فإنه يلزمه الإيمان بالألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية، وكل موحد توحيد الألوهية فهو موحد توحيد الربوبية، إذ لا يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل مع اعتقاد أن الخالق غيره، أو الرزاق غيره، أو المحيي غيره، أو المدبر غيره، فهذا غير موجود وغير واقع.
وعبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة في رسالة العبودية عن الصوفية بقوله: إن هؤلاء هم الذين يشهدون الحقيقة الكونية.
وقد سبق أن بينا معنى الشهود، وقلنا: إن الشهود معناها: استغراق العقل والنفس والعمل في أمر ما، كأن الاستغراق النفسي شبه برؤية العين وهي المشاهدة، فسمي شهوداً، يعني: من شدة تعلق ومن شدة استحضار المعنى سمي شهوداً والشهود في العادة إنما يكون بالعين.
وأما الحقيقة الكونية فهي مقتضيات توحيد الربوبية: من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير ونحو ذلك، فمعنى شهود الحقيقة الكونية: الاستغراق والهم والاستحضار الدائم والتعمق في هذا الباب للحقيقة الكونية وهي لخلق الله وتدبيره ورزقه وتصريف الكائنات.
وهذا المعنى وإن كان جزءاً أساسياً في الإيمان، إلا أنه ليس هو الإيمان الكامل الذي جاءت به الرسل؛ لأن شهود الحقيقة الكونية واستحضار الحقيقة الكونية ليس أمراً مختلفاً فيه بين الأمم، فالكفار الذين بعث إليهم الأنبياء كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر ولم ينفعهم هذا الاعتراف، ولهذا يقول الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢].
قال المفسرون: وأنتم تعلمون أنه الخالق الرازق المحيي المميت.
وجاءت دعوة الأنبياء جميعاً لتقرير: أن الله سبحانه وتعالى معبود وحده، وأنه لا بد للعبد أن يشتغل في علمه وفي عمله، في إرادته وفي عمله الظاهري وعمله الباطني بالتعبد لله عز وجل.
فالمحبة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والاعتماد لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى، والتصديق والتعظيم إنما يكون لله سبحانه وتعالى، هذا هو التوحيد وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
والصوفية اشتغلوا بأمر لم يكن هو موضوع دعوة الرسل، وهو شهود الحقيقة الكونية، وهذا الشهود ليس شهوداً عادياً، يعني: ليس نظراً عادياً واستغراقاً عادياً في معاني الربوبية وفي الحقيقة الكونية، وإنما هو اشتغال بالربوبية بطريقة مخصوصة أودى بهم إلى أنواع من الضلالات، وأنواع من العقائد المنحرفة التي ستأتي معنا.
وقد أشار المؤلف إلى أن دعاة وحدة الوجود هم الذين يرون أن هذا الكون وحدة واحدة، خالق ومخلوق في وقت واحد، ولا يفرقون بين الله وبين خلقه، ولا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يفرقون بين الرازق والمرزوق، ولا بين الفاعل والمفعول، لا يفرقون بين هذا جميعاً، وإنما يجعلونها حقيقة واحدة، وأن الله عز وجل هو هذه الكائنات الموجودة التي نشاهدها ونراها ونحن جزء منها، ولهذا قال بعضهم: ما في الجبة إلا الله، يعني: هو الله، هذا هو مقتضى كلامه، وهذا هو المقصود.
ولهذا قال ابن عربي ا