[الرد على غلاة شاهدي الحقيقة الكونية]
قال: [وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض؛ فإنه لا يمكنه أن يقر كل آدمي على ما يفعل].
أي: لا يمكن أن يقر كل الناس على ما يفعلون، فلو نظرنا في الحياة لوجدنا أن هؤلاء يحاربون أولئك، وأن هذا يغتصب مال غيره، وهذا رجل قوي يقتل ضعيفاً، فكل هؤلاء معذورون، وما هو معنى العدل حينئذٍ؟ وماذا يعني اسم الله عز وجل العدل؟! إنه لا يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً على حق، فأولئك يعبدون صنماً، وأولئك يعبدون نملاً وبقراً، وأولئك يعبدون الشمس، وأولئك يعبدون الله، فهل كل هؤلاء على حق؟! لا، فهذا لا يمكن من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية لا يمكن أن يقر كل الناس على ما يفعلون، فهناك ظالم ومظلوم، وهناك أمم ظالمة تأكل أمماً أصغر منها، فالأمم التي أصغر منها مظلومة، وهناك أشخاص أقويا يعتدون على الضعفاء، ولا يمكن أن يقر الناس على هذا ويقال: إن هذا هو مقتضى القدر وإنهم معذورون، وإلا فما هو معنى الظلم في قاموس هؤلاء؟! فلا شك في أنهم سيحتارون، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنهم متناقضون.
وتناقضهم واضح وظاهر.
يقول: [فلا بد إذا ظلمه ظالم].
يعني: هذا الرجل الذي يؤمن بهذه العقيدة إذا ظلمه ظالم.
[أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد، وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر].
ولا يقول: إنه حق؛ لأن الله قدره.
[وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوانه وعدوان أمثاله].
وما هو معنى قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩]، فلماذا إذا قتل شخص شخصاً يقاد به؟! وهل يصح أن نقول: إن الله كتب عليه أن يموت وأن هذا يقتله، فنعذره على قول هؤلاء؟! إن هذا قول باطل لا تستقيم به إنسانية أبداً، وإنما قدر الله عز وجل يدفع بقدر الله.
يقول: [فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك].
فإذا اعتدى عليك أحد ونهب مالك فارض، وإذا اعتدى أحد على أهلك فارض، وإذا قُتلت ظلماً وبهتاناً وعدواناً مع أن الحق معك فارض؛ لأن هذا القدر، ولا يمكن أن يقر على هذا.
قال: [وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك].
ثم يقول شيخ الإسلام: [وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية].
يعني: بالربوبية العامة، وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت.
[لا يطردون هذا القول].
يعني: لا يلتزمونه في كل أمورهم، وإنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، ففي أشياء يقولون: هذا من قدر الله، وفي أشياء لا يقولون: هذا من قدر الله.
فهؤلاء يتبعون أهواءهم، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣].
يقول: [كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواه تمذهب به].
يعني: إذا طلبت منه الطاعة يقول: الله ما كتبها علي، وأنا حر أفعل ما أشاء وأترك ما أشاء، وعند المعصية يقول: أنا مجبور على هذه المعصية! فانظر إلى التناقض في مثل هؤلاء.
فهذه هي الطائفة الأولى من طوائف الجبرية، وهم الجبرية المطلقة، وهؤلاء أقل كفراً من أهل وحدة الوجود الذين سبق الحديث عنهم.