قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقلب إن لم يكن حنيفاًً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه كان مشركاً: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[الروم:٣٠ - ٣٢].
وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين، أهل محبة الله وعبادته، وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة للمشركين، المتبعين أهواءهم.
قال تعالى في إبراهيم:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:٧٢ - ٧٣].
وقال في فرعون وقومه:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}[القصص:٤١ - ٤٢]، ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزون بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدره وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا].
الله عز وجل له إرادتان: الإرادة الأولى: هي الإرادة الشرعية، والإرادة الثانية: هي الإرادة القدرية، فالإرادة الشرعية: هو ما أمر الله عز وجل به، والإرادة القدرية: هو ما خلقه الله سبحانه وتعالى، فالإرادة الشرعية كلها محبوبة لله عز وجل، يدخل فيها الإسلام، والإيمان، والعمل الصالح بكل أنواعه وألوانه، وأما الإرادة الكونية فليست كلها مما يحبه الله، فما خلقه الله عز وجل ليس نوعاً واحداً، بل منه ما يحبه الله مثل: الصالحين، والمساجد، والأعمال الصالحة ونحو ذلك، فهذا مما يحبه الله سبحانه وتعالى، ومنها ما لا يحبه الله مثل: إبليس، والكفار، والأعمال السيئة، والقتل، والظلم، والبغي، والعدوان على الخلق، إلى غير ذلك من الأمور التي يبغضها الله عز وجل مع أنه خلقها في الدنيا، فإن كل شيء في هذه الدنيا عائد إلى الله سبحانه وتعالى من حيث الخلق، فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وإنما خلق الله عز وجل هذه الأمور المكروهة والسيئة؛ للابتلاء، فهذه هي الحكمة.
فكثير من الناس لا يفرقون بين ما شرعه الله عز وجل من الطاعة، وما يحبه سبحانه وتعالى، وما أمر به، وبين ما خلقه سبحانه وتعالى من الأمور المكروهة بالنسبة لهم، فيجعلون هذا مثل هذا، ويخلطون بينها، فتجد أن بعضهم يعتذر عن كثير من الأمور المحرمة التي يمارسها بكون الله عز وجل خلقها وأنها مقتضى إرادته، وهذا هو معنى قول الشيخ: ولهذا يصير أتباع فرعون، يعني: هؤلاء الضالين الجبرية، سواء جبرية الصوفية، أو جبرية الجهمية، قال: ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزون بينما يحبه الله ويرضاه، فلا يميزون بين الصلاة وبين الزنا، مع أن الصلاة أمر الله بها، والزنا حرمه الله سبحانه وتعالى، فلا يميزون بينما يحبه الله ويرضاه وبينما قدره وقضاه، فهم يقولون: إن كل ما قدره الله وقضاه من الأمور الكونية محبوبة لله ولا بد، وهذا فهم فاسد وباطل، وهذا هو الذي حصل عند جبرية الصوفية والجهمية، ولهذا توصلوا في نهاية الأمر إلى أن لا حلال ولا حرام، بل الكل حلال، بل توصلوا في نهاية الأمر كما حصل عند أصحاب وحدة الوجود إلى أن الكون كله وحده واحدة وهو ذات الخالق سبحانه وتعالى، فالكون خالق ومخلوق، وليس هناك تمييز وفارق بين المخلوق والخالق، وهذا لا شك أنه ظلم وعدوان، وكفر مبين، ومخالف لكل شرائع الأنبياء والمرسلين.