للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القدر قد يكون سبباً في هداية الإنسان وقد يكون سبباً في غوايته

وبعض الناس يفكر ويقول: لماذا الله عز وجل ما هداني إلى الخير؟ نقول: الهداية مرتبطة بالعمل والغواية مرتبطة بالعمل، يعني: الذي يقوم بعمل صالح يسر الله له الهداية، والذي يقوم بأعمال سيئة يكون سبباً في الغواية.

والناس في هذه الدنيا في دار ابتلاء وفي دار امتحان، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على نفسه، ولهذا يتكلم الوعاظ كثيراً والصالحون عن هذه القضية، ولهذا قضية مثل قضية القدر يمكن أن تكون سبباً في هداية الإنسان، ويمكن أن تكون سبباً في ضلال الإنسان.

يمكن أن يهتدي إنسان بسببها؛ لأنه يشعر بقيمة الإرادة التي أعطاه الله عز وجل إياها، مع إيمانه اليقيني بأن الله كتب الأشياء السابقة، لكن هو لا يستكشف الغيب لأنه لم يصل إليه، ولا يستكشف الغيب لأنه قطعاً لن يصل إليه، وحينئذٍ يدفعه هذا إلى العمل، ولهذا أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية الذين يكذبون على أنفسهم، فالواقع أنك لست مجبوراً، فهم يقولون: إن الإنسان مثل الريشة في مهب الريح.

وبين المعتزلة الذين يقولون: نحن دعاة حرية الإرادة، والإنسان مختار اختياراً مطلقاً، وأن الله لم يكتب شيئاً سابقاً.

وهذا تكذيب للنصوص الشرعية الواردة في الشرع والأخبار القطعية الواردة والمتواترة من حيث النقل ومن حيث المفهوم، فهل تكذب هذا كله من أجل أنك لم تستطع أن تفهم كيف أن لك إرادة، وأن الله كتب عليك سابقاً أموراً تتعلق بشقائك أو سعادتك؟ هذا فهم فاسد.

ولهذا نحن أهل السنة نؤمن بإرادة الإنسان الحرة واختياره، وإمكانية اختياره مع كتابة الله عز وجل له، وأن هذه الإرادة من خلق الله، وهذا الفعل الذي ينتج عن الإرادة من خلق الله سبحانه وتعالى، وأن أفعال العبد مخلوقة لله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يكون في كون الله عز وجل أمر غير مخلوق.

وأحياناً قد يكون الإيمان بالقدر بالمفهوم الصحيح سبباً في اندفاع الإنسان للعمل، وبناءِ النفس وبناءِ الأمة وبناءِ الحضارة بأكملها.

وأحياناً يكون الفهم الفاسد في القدر سبباً في الخنوع والضعف والاستسلام المطلق، ولهذا من أعظم أسباب هزيمة الأمة في العصر الحاضر هو الفهم الفاسد للقدر، وهو الذي جعلها مستسلمة.

قديماً كان الصحابة يقاتلون في المعارك دون خوف؛ لأنهم يعرفون أن أرواحهم بيد الله ليست بيد البشر، وأنك إن لم تمت في المعركة مت على فراشك كما قال خالد بن الوليد: مثل موتة البعير.

فالموت سيأتيك سيأتيك، ولا محاولة للتأخير أو التقديم {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤].

فأنت لو اندفعت في صفوف الأعداء وقاتلت قد تجرح، وقد تتأذى، لكن إذا لم يقدر الله لك أن تموت فلن تموت، وإذا هربت وجلست في بيتك خوفاً من الموت وقدر الله لك أن تموت ستموت ولو في منامك، ولهذا كم من رجلٍ يأخذ الكأس ولا يستطيع أن يكمل شربها؛ لأن حياته انتهت، كما أن الذي يقاتل في المعركة ويضرب برصاصة في صدره ويموت انتهت حياته، والكل انتهت حياته.

جعله يبني نفسه، ويبني أمته، ويحقق المقصد الشرعي في العلم والعمل، والمقصد الشرعي في العلم هو معرفته بإرادة الله عز وجل المطلقة، وأن الله عز وجل كتب هذه الأمور سابقاً، وأنه عالم بشئون العباد جميعاً، والعمل بالقيام بما أمر الله عز وجل به في حياة الإنسان.

وأحياناً يكون القدر إذا فهمه الإنسان فهماً باطلاً سبباً في الخنوع والذلة، ولهذا لما انتشر هذا المذهب الرديء مذهب الجبرية -مذهب الصوفية- لما انتشر في الأمة وأصبحت تمارسه ممارسةً بشكل تشعر به أو لا تشعر به كان سبباً في استذلال العدو لهم، فلما دخل الاستعمار في القرن الماضي كانت بلاد المسلمين محتلة جميعاً مثل العراق الآن، نسأل الله عز وجل أن يخرج هؤلاء الكفار من العراق ومن فلسطين ومن أفغانستان ومن كل بلاد المسلمين.

هؤلاء كانوا يحتلون كل بلاد المسلمين، فكانت مصر محتلةً وليبيا محتلةً والجزائر محتلةً والمغرب الأقصى بما فيه تونس محتلة، وكانت العراق محتلة أيضاً، وسوريا محتلة، وفلسطين كلها محتلة، كان الاحتلال الفرنسي والبريطاني والإيطالي أحياناً يسيطر على هذه البلاد الإسلامية وكانوا تحت الاستعمار، ومع هذا لم تتكون فرق جهادية لمقاومة مثل هؤلاء.

وكان من أعظم الأسباب الذي جعل هؤلاء في حالة خنوع مع الضعف المادي الذي كان موجوداً، هو الجبرية، وهذا المذهب الرديء يشعرك أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره، وأن سيطرة هؤلاء الكفار مكتوبة علينا، وأنه يجب عليك أن تلتزم بما هو مكتوب عليك، وأن تخنع وأن تضعف وأن تركن، بينما الواجب هو أن يركز الإنسان على العمل مع إيمانه بما هو مكتوب عليه.

نعم دخل الأعداء بلادنا، هذا قدر مكتوب علينا، لكن نحن نقاوم القدر بالقدر، أيضاً قدر الله عز وجل وأمرنا أن نقاوم العدو وأن نقاتلهم، وأن نجتهد في إخراجه من بلادنا، وأن نعتبر أن هذا من فروض الأعيان علينا.

وهكذا الحال في باب المنكرات مثلاً، أحياناً ينتشر المنكر قليلاً قليلاً في منطقة من المناطق، وهذه مشكلة تنتشر بيننا نحن، ونحن من

<<  <  ج: ص:  >  >>