[مرتبة التاركين لما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة كالتوكل ونحوه]
قال رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء طائفة أعلاهم عندهم قدراً وهم مستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قًدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا ضلال مبين وغلط عظيم، فإن الله قدر الأشياء بأسبابها، كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنار أهلاً، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل النار يعملون)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييّسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيييّر لعمل أهل الشقاوة).
فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة، والتوكل مقرون بالعبادة، كما في قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣] وفي قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:٣٠] وقول شعيب عليه السلام: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨]].
هذه الطائفة مختلفة عن الطائفة السابقة؛ فالطائفة السابقة لا تعمل شيئاً من الواجبات ولا تترك شيئاً من المحرمات، وإنما هم يسيرون حسب أهوائهم ويعتقدون أن هذا الهوى الذي يسيرون عليه، هو ما أراده الله عز وجل لهم، وهو ما أوجبه عليهم وهو مقتضى القدر الكوني، وهؤلاء جبرية كما سبق أن أشرنا إليه.
لكن هذه الطائفة مختلفة، هذه الطائفة مسلمة تأتي بالأمر وتترك النهي، يعني: تأتي بالفرائض وتترك المحرمات، لكن المشكلة التي وقعت عندهم وقعت في الأسباب، فهم يعتقدون أن التوكل على الله عز وجل يقتضي ترك الأسباب وأنك إذا كنت متوكلاً على الله عز وجل، فإنك تترك هذه الأسباب، ولا تقوم بها؛ ولا شك أن هذا قول باطل، فهم متناقضون في هذا.
فالأسباب نوعان: أسباب طبيعية، وأسباب شرعية.
فالأسباب الشرعية هي: الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، فالإتيان بالواجبات وترك المحرمات من أسباب السعادة في الدنيا والفلاح ودخول الجنة في الآخرة، وهي سبب للبعد عن النار.
وهؤلاء جاءوا بالأسباب الشرعية، لكنهم يتركون الأسباب الطبيعية؛ ظناً منهم أن هذا هو التوكل على الله عز وجل، ولا شك أن هذا باطل، وأن هذا خطر كبير؛ فالتوكل لا يعارض العمل، ولهذا فإن الأحاديث التي استدل بها الشيخ يلاحظ أن الصحابة قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) فالعمل لا يتعارض مع القدر المكتوب؛ فالقدر المكتوب غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، والمطالب به الإنسان في الدنيا هو العمل، فالله عز وجل أمره ليعمل ونهاه ليعمل، وفق ما أراد الله عز وجل من ترك المحرمات، فترك المحرم عمل كما أن فعل الواجب عمل.
ولهذا ربط الله عز وجل بين التوكل الذي هو: التفويض، وبين العبادة التي هي: العمل فقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣] وهذا فيه إشارة عظيمة إلى أن التوكل الذي يفهمه هؤلاء ليس هو التوكل الشرعي.
فالتوكل الشرعي يقتضي التفويض لله عز وجل مع العمل؛ ولهذا قال: ((فاعبده)) ولو كان التوكل يقتضي ترك العمل لما اقترنت العبادة بالتوكل، ولكان التوكل معنى سلبياً يدل على ترك جميع الأسباب الطبيعية، والأسباب الشرعية.
ولا شك أن الأسباب مخلوقة لله عز وجل، وأنها لا تمضي ولا تتحقق في الواقع، إلا بعد مشيئة الله عز وجل وإرادته، فالسبب ليس خالقاً، وإنما هو وسيلة خلق الله عز وجل المخلوقات وتدبيرها، خلق الله عز وجل الزرع بالمطر، وجعل السكين سبباً في القتل، وجعل الماء سبباً في الري، وجعل الأكل سبباً في دفع الجوع، وجعل العمل الصالح سبباً في دخول الجنة، وجعل ترك المحرمات سبباً في البعد عن النار، وجعل فعل المحرمات سبباً في دخول النار، فهذه أسباب طبيعية وشرعية خلقها الله عز وجل في الكون، والواجب هو أن يأتمر الإنسان بأمر الله عز وجل فيها، فيبتعد عما نهاه عنها، ويفعل ما أمره بها، وإذا كانت هناك أسباب طبيعية، يدفع هذه الأسباب التي قد تضره بالأسباب الأخرى التي تنفعه، وقد سبق أن ذكرنا القاعدة النفيسة التي ذكرها الشيخ عبد القادر الجيلاني عندما قال: نحن ندفع قدر الله بقدر الله، وهذه من أعظم القواعد الشرعية في هذا الباب.