[الآثار المترتبة على الانحراف الكلامي في مفهوم العبادة]
وقد ترتب على هذا الانحراف عند أهل الكلام أن تكون العبادة هي الأفعال والأقوال التي تصرف لمن يعتقد فيه أنه خالق ورازق، فالعبادة عندهم هي الأقوال والأعمال التي تصرف لمن يعتقد فيه الربوبية، فإذا رأى أحدهم رجلاً يطوف حول قبر أو يذبح له أو ينذر له أو يستغيث بغير الله، قال: هذا في حد ذاته ليس كفراً؛ إلا إذا كان يعتقد أن هذا الذي صرفت له العبادة خالق ورازق، وحينئذ افترق الناس إلى فرقتين في مفهوم العبادة وفي مفهوم الشرك أيضاًَ، فصار أهل الكلام يعرفون العبادة بتعريف غير تعريف أهل السنة، وصاروا يعرِّفون الشرك بتعريف غير تعريف أهل السنة، فهم يقولون: العبادة هي الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي تصرف لمن يعتقد فيه الخلق والرزق والإحياء والإماتة والربوبية.
أما أهل السنة فإنهم يقولون: العبادة هي الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي تجمع بين الخضوع والذل وبين المحبة، حتى لو صرفت لمن يعتقد أنه حجر، أو أنه ولي، أو أنه نبي، أو ملك من الملائكة، فما دام أنها أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة اجتمع فيها الذل والخضوع واجتمع معها المحبة كذلك فهي عبادة مصروفة، فإما أن تكون لله فتكون حينئذ توحيداً، وإما أن تكون لغير الله فتكون حينئذ شركاً.
وترتب على هذا الخلاف بين السلف رضوان الله عليهم وبين أهل الكلام في مفهوم العبادة ترتب عليه خلاف كبير في الواقع، فأهل السنة يقولون: إن الذين يقفون حول القبور وينذرون لها ويذبحون لها كفار، وأهل الكلام يقولون: هم لم يعبدوا غير الله.
ولهذا فإن كتاب:(مفاهيم يجب أن تصحح) لـ محمد علوي المالكي قال فيه صاحبه بالنص: ولا يكفر المستغيث بغير الله ما لم يعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى.
فعنده لو أن إنساناً استغاث بولي وهو يعتقد أنه غير خالق بل هو مخلوق، فليس فعله من الشرك، وأنه إذا ذبح لولي أو نذر له فإن هذا ليس من الشرك، إلا إذا اعتقد أن هذا الولي هو الخالق الرازق، وهذا لا شك في أنه لا يقول به أحد في الدنيا، فإنه لا يوجد طائفة تقول: إن هذا الكون أوجده إلهان وصانعان متفقان في الصفات وفي الأفعال، وإنما أكثر الملل وأكثر الأمم على أن الله هو الخالق الرازق، فمن أين دخل عليهم الشرك حتى اقتضى هذا أن يرسل الله إليهم الرسل؟ لقد دخل عليهم الشرك عندما صرفوا العبادات لغير الله، وعندما صرفوا الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة لغير الله عز وجل، وعندما صلوا لغير الله، حتى لو كان من صلوا له يعتقدون فيه أنه مخلوق، وعندما ذبحوا لغير الله ونذروا لغير الله واستغاثوا بغير الله، وعندما أحبوا غير الله حب الذل، وعندما خافوا من غير الله خوف العبادة، وعندما توكلوا على غير الله واعتمدوا عليه حصل فيهم الشرك، وعندما تحاكموا إلى غير الشرع، فبذلك حصل عندهم الشرك والكفر.
وهذا التعريف الباطل الذي يعرف به أهل الكلام العبادة يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم:(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً للدينار، مع أنه لا يوجد أحد في الدنيا يتصور أن الدينار خلقه، أو أن الدراهم خلقته، أو أن الخميصة أو الخميلة تخلق وترزق.
فالعبادة في مصطلح الشرع لا يلزم منها أن يكون هناك اعتقاد بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق فيمن صرفت له، لكن لا شك في أن العبادة الشرعية المقبولة عند الله هي التي تصرف لله عز وجل باعتقاد الربوبية له، ولا يتصور أن يوجد إنسان يصرف العبادات لله عز وجل وهو لا يعتقد فيه أنه خالق ولا رازق ولا محيٍ ولا مميت.