[ضلال الصوفية في الفناء عن شهود السوى]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى.
والمراد: فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه.
كما يذكر: أن رجلاً ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني.
وهذا الموضع زل فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وإن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما].
يعني: أن هذا النوع درجات، وليس درجة واحدة، فبعض الناس قد يستغرق في ذكر الله وفي التفكر في الله سبحانه وتعالى إلى درجة أن يغيب بالله عز وجل أو بموجوده عن وجوده هو، وقد يزيد هذا الفناء إلى درجة أنه لا يشعر بما حوله، وقد يزيد إلى درجة أنه لا يفهم شيئاً مما حوله، وقد يكلمه الناس فلا يعيهم، وقد يحركون بعض أجزائه فلا يتحرك، كأنه مغشي عليه، أو كأنه مصروع، أو مريض، وهذه لا تحصل للكاملين، وإنما تحصل للناقصين ضعاف النفوس، فقد يكون صاحب هذه الحال إذا لم توجد عنده عقائد باطلة طيباً في نفسه، ومن شدة ذكره وتعلقه بربه وتفكيره في صفاته وفي أسمائه قد يغيب عما حوله، وهذا الذكر والفكر والتعلق قد حصل لأئمة وسادات الأولياء، مثل: الأنبياء والصالحين، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يرد مثلاً أن أحداً منهم إذا تقدم للصلاة وصلى سقط مغشياً عليه، بينما ورد هذا عن بعض المتأخرين ممن جاء بعد الصحابة، فكانوا من شدة تعلقهم بالله وخوفهم منه ورغبتهم فيما عنده جاءوا إلى الصلاة وكبروا ربما لا يستطيعون أن يتمالكوا شيئاً من أعصابهم، فيسقطون مغشياً عليهم، وهذه كلها أخبار صحيحة، وربما يتلى على بعضهم الآية أو يذكر له الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتأمل فيه فيسقط مغشياً عليه، وهذه الحال ليست عيباً في مثل هذا الشخص من ناحية دينه، فقد يكون تدينه قوياً، وقد تكون معرفته بربه صحيحة، وليس من أهل البدع ولا علاقة له بها، ولكنها ترجع إلى النفسيات، وإلى قوة الشخصية، فبعض الناس لديه من قوة الشخصية ما لو استغرق وعرف فلا يؤثر ذلك على نفسه، ومن الناس من يكون ضعيفاً.
وهذه الحال انتشرت عند المتأخرين من بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن الصحابة أفضل وأعرف بالله منهم، وأشد خوفاً من الله وتوكلاً عليه منهم، وأشد جهاداً منهم، وكانوا في كل باب من أبواب التعبد أشد منهم في التعبد لله عز وجل، ومع ذلك كانت نفوس الصحابة نفوساً قوية، تتحمل مثل هذه الأمور، فلا تؤثر على أعصابهم، بينما المتأخرين كان في نفوسهم ضعف، وهذا وارد في الناس، فمثلاً: النساء لسن في قوة التحمل مثل الرجال، وكذلك الرجال يختلفون، فبعض الناس تكون قوة تحمله النفسية ضعيفة، وبعض الناس يكون عنده قوة تحمل، حتى أنه قد تأتيه القضايا الكبيرة والعظيمة فلا تؤثر فيه، في حين أن بعض الناس قد تأتيه القضايا الصغيرة البسيطة فتقلب كيانه بأكمله، فبعض الناس قد يمرض ابنه فيتغير شعوره، وقد يضعف، وقد يسقط مغشياً عليه، وبعض الناس ربما يؤتى له بابنه مقتولاً فلا يتأثر تأثراً كبيراً، فهذه راجعة إلى الأمور الشخصية أكثر من رجوعها إلى الأمور الدينية، فينبغي إدراك هذه القضية، فمثلاً: الأحنف بن قيس كان محتبياً فجيء له بابنه مقتولاً قتله ابن عمه، وقد أمسكوه وأتوا به معهم، وكان الأحنف محتبياً فما فك الحبوة التي كانت تربط جسده، وقال: أطلقوه، إنما هي بضعة منك قطعتها -يكلم ابن عمه- أعطوا أمه -يعني: زوجته- مائة من الإبل، فإنها غريبة، وأكمل حديثه، فهذه النفوس ليست عادية، وإنما هي نفوس عظيمة وكبيرة، وتدل على علو في الهمة، وعلى صفات شخصية قوية غير عادية.
وهذه المظاهر الغريبة التي قد تحصل عند البعض قد يفسرها المتأخرون بأنها هي نفسها: وحدة الوجود، وهي: التعلق بالمخلوق، والاتصال التام بين الخالق والمخلوق إلى درجة أنهما شيء واحد، وقد قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا: وهذا غلط، وهو صادق بأن هذا غلط، فليس الخالق مثل المخلوق، وهناك فارق بين المخلوق والخالق.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلاً].
لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] وهو الأحد الصمد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٣ - ٤].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل لا يمكن أن يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدت حقيقة كل منهما، وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا].
أي: إلا إذا تغيرت حقيقة كل واحد منهما، فمثلاً: الذين يقولون: بأنه اتحد العبد في الله فمعنى هذا أنه يلزمهم أن العبد تغيرت حقيقته فصار شيئاً آخر، وأن الله تغيرت