[انحرافهم في باب الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً للقدر].
يقول: وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من علماء الحنابلة، كان في بغداد، وله كتاب الغنية، وله كتاب في ذم علم الكلام، وهو من علماء المسلمين الصادقين، ومن الأولياء الفضلاء الطيبين، وهو من أهل السنة والجماعة، لكن الصوفية تعلقوا به، ونسبوا إليه كثيراً من الأمور كذباً وبهتاناً، وما نسبوه إليه لا يصح عنه، وهو من شيوخ ابن قدامة المقدسي صاحب المغني، الكتاب المشهور في فقه الحنابلة.
يقول: إن الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، يعني: كثير من الناس إذا وصل إلى باب القضاء أو القدر فإنه يمسك فلا يدري كيف يفهم هذا الباب، وهذا السبب فيه يرجع إلى عدم اتباع السنة والجماعة ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
يقول: إلا أنا فإنه فتحت لي فيه روزنة، المقصود بالروزنة: النافذة، يعني يقول: فتحت لي نافذة في باب القضاء والقدر.
والنافذة هي قوله: فنازعت أقدار الحق، وأقدار الحق يعني: أقدار الله التي قدرها الله عز وجل، يعني: الأقدار السيئة، التي قدرها الله عز وجل اختباراً وابتلاءً للعباد بالحق وهو اتباع الأمر واجتناب النهي للحق، يعني: لغاية عظيمة وهي اتباع الحق، فالله عز وجل قدر أموراً كثيرةً مما يحب ومما يكره، فقدر مما يحب: الإسلام، والصلاة، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والزكاة، والأعمال الصالحة بكل أنواعها، هذه من مقادير الله عز وجل.
وأيضاً قدر أموراً أخرى مما يكرهها: فقدر الكفر، وقدر أيضاً العصيان والذنوب، كل هذه بقدر الله عز وجل، فإنه لا يكون في هذا الكون إلا أمر قدره الله وقضاه، ولا يكون في هذا الكون إلا شيء أراده الله عز وجل؛ فهذه الأقدار التي يبغضها الله عز وجل يقول: نازعتها، مع أنها من قدر الله لكن أنا نازعتها بقدر الله الآخر الذي أمرني به، وجعلني مكلفاً به للحق يعني: لغاية الحق وهو الله سبحانه وتعالى؛ فالله عز وجل خلق في كونه ما يحب وما يكره، وأمر الإنسان باتباع ما يحب، ونهاه عن اتباع ما يكره، مع أنه من قدره.
إذاً: الواجب الشرعي: أن أستعمل قدر الله الذي أمرني به في رد قدر الله الآخر الذي يبغضه وينهى عنه.
إذاً: ليس كل ما قدره الله عز وجل وقضاه في هذا الكون فهو محب له، فهناك أقدار يحبها وهناك أقدار لا يحبها.
فإن قال قائل: لماذا جعلها الله عز وجل وخلقها ما دام أنه لا يحبها؟
الجواب
ابتلاءً واختباراً ونحن في دار ابتلاء واختبار.
ولهذا ابتلانا الله عز وجل بالسراء والضراء، وابتلانا الله عز وجل بالنعمة والنقمة، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالخير والشر، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ لينظر من يختار ما يحب الله، ويبتعد عن ما يبغض الله عز وجل وينهى عنه.
قال: [والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله، ولكن كثير من الرجال غَلطِوا فيه؛ فإنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يُقَدَّر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره].
يعني: يفعلون المنكرات ويقولون: هذا قضاء الله وقدره؛ ولهذا سيأتي أن الذين يشهدون الحقيقة الكونية أنواع، منهم الذين يحتجون بالقدر ويقولون: هذا قضاه الله وقدره في الكون -يعني: الكفر الموجود الآن- ولو كان الله عز وجل لا يحب هذا الشيء فكيف يوجد في الأرض؟! ولهذا توصلوا إلى مقالات باطلة، والله عز وجل يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:٧] وهم يقولون: بل يرضاه لهم؛ لأنه خلقه.
فكون الله عز وجل خلق الكفر، هذا لا يلزم أنه يحبه.
فخلق الكفار وهو يبغضهم، وخلق أعمال الكفار وهو يبغضها، وخلق كل ما في هذا الكون من الأمور المختلفة المتضادة ابتلاءً واختباراً، وأمر الناس بأوامر، وأنزل عليهم كتباً، وأرسل إليهم رسلاً، وسيحاسبهم يوم القيامة.
وإذا اعتذر إنسان بالمعصية مثلاً أو بالكفر، وقال: إنك يا رب خلقته في الدنيا.
يقال له: وهل كل ما خلقه الله أمرك به؟ هناك ما خلقه الله عز وجل ونهى عنه، والمطلوب من العباد هو اتباع الأمر والنهي وليس اتباع الخلق، هذا هو المطلوب من العباد.
قال: [ويشهد أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخلٌ في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادةً، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨] وقالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧]،وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْ