وقد سبق أن أشرت إلى أن الذين يشهدون الحقيقة الكونية ترتب على فعلهم عدة أمور منها: إهمال الحقيقة الشرعية، وإهمال توحيد الإلهية، وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا التوحيد هو أساس دعوة الرسل، وهو الذي من أجله خلق الله عز وجل الجن والإنس، وهو دين العالمين، وهو الدين المشترك بين الأنبياء رضوان الله عليهم أجمعين.
وتوحيد الإلهية يمكن أن يسمى بعدة أسماء، فيمكن أن يسمى توحيد الإلهية، ويمكن أن يسمى توحيد العبادة، ويمكن أن يسمى ملة إبراهيم؛ فملة إبراهيم هي توحيد الإلهية، ولكن الحقيقة والمعنى والمضمون واحد.
فأقول: ترتب على اشتغال الصوفية بشهود الحقيقة الكونية وشهود الربوبية أمور، منها: أولاً: إهمال توحيد الإلهية، وقد سبق أن أشرت في دروس سابقة إلى آثار هذا الإهمال، مما أدى إلى تغيير مفهوم التوحيد عند أهل التصوف، وترتب على ذلك تغيير مفهوم الشرك، فأصبح الشرك عندهم هو القدح في الربوبية فقط، وأما تعظيم جانب الربوبية واعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ولو انضاف إلى ذلك الشرك في الإلهية فلا يضر عندهم، ولا يرونه من الشرك، ولهذا اختلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع هؤلاء الصوفية ومع الأشاعرة في مفهوم الشرك؛ فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعتبر أن الطواف حول القبور شرك؛ لأنه صرف لنوع من أنواع العبادة لغير الله، وهي عبادة الطواف، وأن الاستغاثة بغير الله شرك فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن الذبح للقبور شرك، وأن القوانين الوضعية التي يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال شرك، لكن هؤلاء لا يعتبرون ذلك من الشرك؛ لأن هذه الأنواع والأمثلة التي ذكرتها ليس فيها قدح في الربوبية عندهم، وأحسنهم من يعتبر هذه من الأخطاء من الذنوب والمعاصي.
فالأمر الأول الذي ترتب على شهود هؤلاء للحقيقة الكونية: إهمال الحقيقة الشرعية أو الدينية، وهو ما أدى إلى الخلاف في مفهوم التوحيد وفي مفهوم الشرك، وترتب على ذلك الصراع الفكري الذي يعيشه المسلمون الآن في الكلام على القبور والطواف حولها، والكلام على الاستغاثة بغير الله، وطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسن القوانين الوضعية وتحكيمها في حياة الناس، ونحو ذلك من الانحرافات الكبرى التي نعتبرها نحن -أهل السنة والجماعة- من الشرك، ونجد أن هؤلاء الصوفية والأشاعرة لا يعتبرون ذلك من الشرك، وهذا الأمر سببه الأساسي هو الإغراق في شهود الحقيقة الكونية واعتبارها الدين بأكمله.