[معاني العبادة التي أضافها الشرع على المعاني اللغوية]
نقول: لقد أضاف الشرع معنى آخر جديداً إلى المعاني الخمسة التي سبق أن ذكرناها، فالحب معنى جديد يدخل في مفهوم العبادة الشرعية، فلا تكون العبادة عبادة شرعية إلا إذا كان فيها حب، فإذا اجتمعت تلك الأركان الخمسة مع الحب تكونت العبادة، وإذا لم تجتمع معه لم تتكون العبادة.
بيان ذلك أنه يمكن أن يخضع الإنسان في بعض الأحيان ويذل ويطيع وهو كاره غير محب، فهذه الأفعال لا تسمى عبادة، مثل حالات الإكراه التي تمر بالناس، بحيث إنهم يُضطهدون من الطواغيت مثلاً، ففرعون اضطهد بني إسرائيل، فلم يستطع أحد منهم أن يرفع رأسه، فالظاهر هو أنهم خاضعون، وأنهم مذلون طائعون له، لكن لا يعني هذا أنهم عبدوه من دون الله، والسبب في هذا أن هذا الخضوع وهذا الذل كان بالقهر والجبر والقوة، وليس خضوعاً تعبدياً، فإن الخضوع التعبدي هو الذي يكون فيه خضوع وفي نفس الوقت يكون ناشئاً عن محبة وعن تأله لهذا المعبود، كما أن المحبة وحدها بدون خضوع ليست عبادة، فالإنسان يحب أبناءه، ويحب أمه وأباه، ويحب زوجته، ويحب إخوانه في الله، ولم يقل أحد من الناس: إن الرجل إذا أحب هؤلاء فقد عبدهم من دون الله، فهو كافر.
ومن هنا كان تحرير المصطلحات الشرعية مهماً جداً، وإذا لم يحدد الإنسان المعاني الشرعية يقع في الزلة.
ومثال ذلك: الذين وقفوا عند المعاني اللغوية في تعريف العبادة، فقالوا: إنها هي الذل والخضوع فقط، فقد رتبوا على هذا أن من ذل وخضع فهو عابد، ورتبوا على هذا أن الذين يذلهم الطواغيت بالقوة والقهر والجبر والحديد والنار كفار، فإذا قيل لهم: لماذا كفروا؟ قالوا: لأنهم خضعوا للطواغيت، فإذا قيل: ما معنى أنهم خضعوا للطواغيت؟ قالوا: عبدوهم من دون الله، فإن العبادة هي الخضوع.
فنقول: لكن هذا الخضوع ليس عن محبة، وإنما هو عن خوف، فقد جبروهم على هذا الخضوع، والعبادة ليست مجرد الخضوع، وإنما هي خضوع مع محبة.
وأكثر ما يبرز معنى العبادة في طاعة طواغيت التصوف، فطواغيت التصوف الآن لا يتسلطون على الناس بالحديد والنار، ولا يتسلطون على الناس بالإرهاب المادي، وإنما يتسلطون على الناس بالإرهاب النفسي، فأنت إذا أغضبت الولي محق رزقك، وذهبت البركة من مالك، وأصبحت ضائعاً في هذا الوجود ليس لك أحد تأوي إليه، وحينئذ يضطر الإنسان الذي ليس عنده عقيدة سليمة إلى أن يخضع لهؤلاء حتى لا يضيع رزقه، وحتى لا يكون من الهلكى، ويكون هذا الخضوع ليس خضوعاً؛ لأنه يخاف على رزقه فقط، بل خضوعاً مشوباً وخصلة التعظيم والإجلال، وفيه العناية بالتعبد، ومنها هنا جاءت المحبة، فهو يحبه لأنه ولي لله كما يتصور، ويخضع له؛ لأنه يخاف على رزقه، فاختلط الخضوع والمحبة، فعبده من دون الله، والعياذ بالله.
فعبودية المريدين لأصحاب الطرق الصوفية أوضح في الشرك -والعياذ بالله- من عبودية المضطهدين الذين لم يخضعوا عن محبة وإنما خضعوا عن خوف، ولهذا ينبغي على الإنسان إذا درس أي مفهوم من المفاهيم الشرعية أن يحرره تحريراً شرعياً، كمفهوم التوحيد مثلاً، أو مفهوم الإيمان، أو مفهوم الشرك، أو مفهوم الكفر، أو غيرها من المفاهيم، ومنها مفهوم العبادة، فيجب أن يحرره تحريراً شرعياً، بحيث يكون المعنى واضحاً في ذهنه، ولا يرد عليه إيرادات تفسد هذا المعنى.
ومن ثم نأخذ من هذا أن حقيقة العبادة التي إذا صرفت لغير الله كانت شركاً: هي الخضوع والذل والطاعة للمألوه والمحبوب، والمألوه والمحبوب هو الذي أحب لمعنى غيبي، فالمشركون الذين كانوا في مكة كانوا يحبون أصنامهم، وقد يقول قائل: ومن يحب الحجر؟ نقول: لا بد من أن نفهم كيف كان المشركون يعبدون أصنامهم، فالمشركون ما كانوا يعبدون الأصنام لأنها حجارة، فهم أناس لهم عقول، ويعرفون أن الحجارة هذه لا تضر ولا تنفع، ولا يستفاد منها، وإنما كانوا -في الحقيقة- يعبدون الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة، فهم في الحقيقة يعبدون هؤلاء، كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٧].
فقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء:٥٧] يعني: أولئك المدعوون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فيحبون ويخافون ويرجون، فهم يعبدون الله، وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون والملائكة.
ولهذا تجد أن النصارى يعبدون عيسى عليه السلام وهو نبي صالح، واليهود يعبدون عزيراً وهو صالح كذلك، والمشركون يعبدون اللات، وسبب ذلك أن رجلاً كان يلت السويق على صخرة بين مكة والطائف، ويعطيه الحجاج، ثم مات، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه من دون الله.
فهم ما كانوا يعبدون الأصنام؛ لأنها حجارة.
وهنا قد يقول قائل: لماذا جاءوا بالأصنام؟ أقول: إن الأصنام جاءوا بها من أجل أن تذكرهم فقط، فيضعون صنماً على شكل إنسان أو على شكل ولي أو على شكل قائد كبير مثلاً، فتذكرهم بالملائكة، وتذكرهم بالأنبياء والصالحين