ثم بيّن ما ترتب على مشاهدة الحقيقة الكونية، وهو القول بسقوط التكاليف، والقول بالجبر، وأن العباد مجبورون على أفعالهم لا اختيار لهم، فعندهم أن أحسن عمل يقوم به الكافر هو الكفر؛ لأن هذا مقتضى خلق الله له، فالله خلقه ليقوم بهذا العمل، وأفضل عمل يقوم به النصراني هو نصرانيته، وأفضل عمل يقوم به اليهودي هو يهودتيته، وهكذا المسلم والدرزي والنصيري، وكل شخص أفضل عمل يقوم به هو ما يقوم به في حياته، وهؤلاء هم جبرية الصوفية؛ إذ الجبرية طائفتان: جبرية الصوفية، وجبرية المتكلمين.
وجبرية الصوفية هم الذين أشار إليهم الشيخ هنا؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم في إثبات أن الله هو الرازق المحيي المميت، وظنوا أن هذا هو أعلى غايات التعبد، فقالوا: إن ثمرة هذه الشهود هو مقتضى خلق الله عز وجل، فإذا خلق الله يهودياً فأحسن عمل يقوم به هو اليهودية؛ لأن هذا تنفيذ لخلق الله! هكذا يتصورون.
ولهذا تجتمع عقيدة الجبرية مع عقيدة أهل الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وقد سبق أن نقلنا عن ابن عربي وغيره أنه يقول: إن الدين -سواء أكان في كنيسة أم في معبد وثني هندوسي أم في كعبة مصل- يدين به كله؛ لأنه يرى أن هذه الأعمال على تناقضها واختلافها أعمال مقدسة وجليلة وكريمة؛ لأنها تنفيذ لخلق الله عز وجل، وخلق الله عز وجل شهوده والاهتمام به هو الأساس، فإذا شاهد خلق الله عز وجل وعظّمه ظن أن كل ثمرة تنتج عن هذه الخلق فهي محبوبة لله، فهو يعظّم إبليس مثلاً، ويرى أن إبليس من كرام الخلق، ويعظّم جميع القاذورات والأوساخ التي في عقائد الناس، ويعظّم ديانة الهنود الذين يعبدون البقر، وهكذا، والسبب في هذا هو أنه ظن أن التعبد الذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله هو تعظيم خلق الله عز وجل الموجود، فخلق الله الموجود فيه أشياء متناقضة، فيه شيء يحبه الله وفيه شيء يبغضه الله.
فهم عظّموا الإرادة الكونية، فلما عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية قالوا: كل مخلوقات الله محبوبة له؛ إذ كيف يخلق شيئاً لا يحبه؟! ولو كان يكرهه لما خلقه! هكذا يتصورون، وما عرفوا أن الله عز وجل خلق مخلوقات يكرهها سبحانه وتعالى وأراد أن يبتلي بها العباد لينظر كيف يعملون وكيف يصنعون، وهذه الحكمة لم تتنبه لها كلتا الطائفتين الضالتين في هذه المسألة، فلم يتنبه لها الجبرية الذين عظّموا الإرادة الكونية، ولم يتنبه لها -أيضاً- القدرية الذين ألغوا خلق الله عز وجل، فلما وجد مثل هؤلاء الصوفية الذين عظّموا الخلق وجدت المعتزلة العقلانية التي ألغت الخلق كله، وقالت: هذا كله من تصرفات العباد، وما هو من خلق الله عز وجل! فانظر إلى الخصومة التي وقعت بين هاتين الطائفتين، وكلتاهما ضالتان وأهل الحق هم أهل السنة الذين أثبتوا خلق الله عز وجل، وأن الله خلق أشياء يحبها، وخلق أشياء لا يحبها لحكمة وهو الحكيم سبحانه وتعالى، وهناك أوامر أَمَرَ الله عز وجل بها وجعل من خلقه ما يصرف عن هذه الأوامر -مثل إبليس والنفس الأمارة بالسوء- حتى يبتلي العباد، وهذه المسألة لم تفهمها تلك الطوائف جميعاً.