إذا جئنا إلى الخلوة نجد أن الصوفية يستدلون بقول الله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:٥١]، فقالوا: إن الله عز وجل جعل موسى يخلو معه أربعين يوماً، وبناء على هذا فنحن نطالب الناس بأن يخلوا مع الله عز وجل أربعين يوماً، وهذا أتم أنواع الخلوة.
ويستدلون -أيضاً- بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة يخلو ويتحنث في غار حراء الأيام ذوات العدد كما قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري.
لكن هذه الاستدلالات استدلالات باطلة، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له ضمن مجموع الرسائل والمسائل، وهذا كتاب مهم جداً، أعني الرسائل والمسائل، فله رسالة اسمها العبادات الشرعية والفرق بينها وبين العبادات البدعية، يقول فيها رحمه الله:[وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ؛ فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا]، فما فعله الرسول قبل النبوة لا نحتج به؛ لأنه بعد النبوة إن أمرنا به اتبعناه فيه وإن لم يأمرنا به دل هذا على أن ما فعله قبل النبوة هو باجتهاد منه وليس بوحي جاءه من السماء.
قال: [وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون، وقد أقام صلوات الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح فأقام بها قريباً من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده، وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال: إن عبد المطلب سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه، كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء، بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك عليه السلام اقرأ، قال صلوات الله عليه وسلامه: فقلت: لست بقارئ، ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة، ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين، كـ أبي جهل، قال الله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:٩ - ١٤] إلى آخر السورة].
هذا يدل على أن استدلالهم بتحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ليس استدلالاً مستقيماً، وأما استدلالهم بكون موسى عليه السلام واعده الله عز وجل أربعين يوماً فهو استدلال باطل، وهنا أشير إلى بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية الذين يرون أن طريق الدعوة أول ما يتم يتم بهذه الخلوة أو الخروج، أو نحو ذلك من الأعمال التي يقومون بها، وقد يحددون لها كيفية معينة خاصة، فإما أن تكون ثلاثة أيام، أو تكون أسبوعاً، أو تكون أربعين يوماً، وقد يحتجون عليها بهذه الآية، واحتجاجهم باطل، وطريقتهم ليست طريقة سنية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:[وطائفة] يعني من هذه الصوفية [يجعلون الخلوة أربعين يوماً، ويعظّمون أمر الأربعينية، ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وقد روي أن موسى عليه السلام صامها، وصام المسيح -أيضاً- أربعين لله تعالى، وخوطب بعدها، فيقولون: يحصل بعدها الخطاب والتزيل] أي: يتصورون أنه إذا جلس أحدهم هذه الأربعين يوماً يحصل له كشوفات، أو يحصل له بركات أو المنتسبون إلى الدعوة اليوم يقولون: إنه في الغالب يلتزم، وهذا -أيضاً- غلط فإن هذا ليس من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل شرعة لموسى عليه السلام، كما شرع له السبت، والمسلمون لا يسبتون، وإنما عيدهم يوم الجمعة، وقد حرّم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة، وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزّل شيطاني وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عدداً طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل حتى أن أحد الصوفية يقال له: ابن سبعين جلس في غار حراء شهراً ينتظر جبريل حتى يأتي بالنبوة، هكذا يتصورون، وهذا من الجهل ومن سوء الفهم لأحكام الله عز وجل، وقد يكون من سوء العقيدة في كثير من الأحيان.
وهناك بدعة عند الطريقة القادرية يسمونها الركعات القادرية، وهذه الركعات القادرية عندهم هي عبارة عن ست ركعات يصلونها بعد صلاة المغرب، ويقولون: إنها تعدل عبادة اثنتي عشرة سنة.